لم يتوفر لجريمة قتل معارض عربي مثلما توفر لمقتل الراحل جمال
خاشقجي، إذ إنه منذ الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي ولأسابيع، غطت أخبار استدراجه إلى القنصلية السعودية في إسطنبول، ثم قتله وتمزيق جثته وإخفائها؛ على ما عداها وسواها من الأخبار العالمية، حتى تلك الخاصة بفلسطين وغزة، بل زعم البعض أن الكيان الصهيوني "كان" يعد لضربة غاشمة على القطاع الباسل لينسي العالم أخبار الراحل رحمه الله.
والإعلام الذي بات يسهر على تفاصيل أخبار الغدر بالصحفي والكاتب الراحل، مثلما يحاصر مراسلوه القنصلية السعودية في إسطنبول حيث قُتِلَ الرجل؛ ذلك الإعلام نفسه هو الذي سمحت له السلطات التركية حتى أعلى مستوى بأن يتولى نشر خبر اختفائه بعد دخوله المقر الدبلوماسي السعودي في إسطنبول، ثم المخاوف من أن يكون قُتلِ، ثم وقائع القتل نفسها، على نحو اعترض البعض عليه في البداية.. وعلى كون الإعلام لم يعد في حادثة "مقتل خاشقجي" ناقلا للخبر بل صانعا له، على نحو قد يحمل بين طياته مبالغة.. بل تعدى البعض في مقتبل الأحداث لوصف جهات إعلامية تركية وغير تركية بالكذب.
في المنتصف، صار صوت المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن، في بداية الإعلان عن اختفاء خاشقجي صوت باهتا مع مرور الوقت، بل لا نكاد نبالغ إذا ما قلنا أنه نُسِيَ في الزحام الشديد، كما الخطاب الأول لأردوغان بعد الإعلان عن فقد ومقتل خاشقجي.. كلها أحداث سقطت (مع كثرة الأخبار والعواجل) من الذاكرة تماما، حتى ظهور أردوغان الثاني منذ أيام كان بمثابة نجاح إعلامي ساحق في حمل راية الدفاع عن الرجل المقتول غيلة وغدرا بيد أبناء بلده، بعد أن وثق فيهم واستبعد أن تخونه بلاده وأناس يحملون آثارها.
وحدث اختفاء ثم مقتل خاشقجي زاد من ثقة الآلة الإعلامية الدولية بنفسها، من مواقع الكترونية وصحف ورقية، بل مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، في أنها قادرة على صناعة حدث يهز العالم كله إذا توافرت لها المصداقية والشفافية، والدولة التي تغذي المواد المنشورة بالوقود العاجل قبل أن يقل اشتعاله أو يجف مطره.
وبالتبعية وبتواتر وتناقل الأخبار إعلاميا، ولأن الراحل محسوب على المنظومة الإعلامية نفسها، وهو جدير بذلك، وبالتبعية، رأى إعلاميون أن أمر خاشقجي يتعدى مجرد نقل الأخبار والتكهنات بل التحليلات المفصلة والموجزة إلى ما هو أبعد.. من إعلان عن تخطي حجب الغيب، وتوقع سقوط الشخص الثاني المفترض في حكم المملكة، وساعدهم على ذلك استدعاء أخيه وأمنيات بعودة عمه.
وإن كانت هذه الأخبار ما تزال على المحك، إلا أن البعض أسهب وزاد في التمني أن يؤدي الحدث إلى فك الحصار عن دولة عربية شقيقة، وهو ما نتمناه، إلا أن آخرين أعربوا عن آمالهم أن يخفف الانقلاب المصري من قبضته وصولجانه على المعتقلين في مصر، ونفي أي حل مع المعارضين له.. وإن مثلوا ظاهرة صوتية لا أكثر، وهو ما نتمناه أيضا.
وهكذا، فانطلاقا من الإعلام الذي نقل ورصد حدث
اغتيال خاشقجي في البداية، وصل الأمر إلى مشاركة الجميع في النقل والرصد والتمني، ثم لاحقا جدا تم الإعلان عن رابطة لمناصرة الراحل وفعاليات في عدد من العواصم العالمية تابعة لها.
وفي الحدث الأخير تكرار لمنظومة مصرية وعربية معروفة، من تجمع خلف حدث سياسي ضخم وإعلان عن وقفات بل مسيرات ثم تنديدات وغضب عارم.. ثم في النهاية لا شيء، وربما كان الاختلاف الوحيد هاهنا أن السلطات التركية قد تكون دفعت بالسادة المؤلفين للرابطة للإعلان عن أنفسهم، ربما لاستغلالهم في مرحلة لاحقة لإذكاء نيران الحدث إن فترت تلك النيران.. وهو ما لا يدل الواقع الحالي عليه، اللهم إلا إن خفت حدة ردود الفعل حول الأحداث بمرور الوقت، وتجدد أحزان ومقاتل واغتيالات في عواصم أخرى كثيرة، منها ما يخص مسلمين على الأغلب، ومنها وفيها ما يخص آخرين أيضا.
إن "الألق والبهاء" الذي انتشر بهما خبر مقتل خاشقجي، إن جازت الكلمتان هنا، ناتجان عن تدخل إعلامي فعال جدا لدى حادثة اغتيال إنسان بريء حمل فكره وقلمه لا أكثر، وأراد حقا من أبسط حقوقه: الاقتران بقلب جديد أحبه بعدما أبعده النظام الذي ينتمي إليه عن أهله وناسه وممتلكاته..
وبدلا من أن يسعى الزملاء من الإعلاميين الرسميين والناقلين من غيرهم إلى تجديد أدوات البحث الإعلامية، وصولا إلى وسيلة تجعل من عشرات القتلى في ميانمار أو الصين الشرقية أو مصر أو اليمن أو فلسطين أو العراق وهلم جرا.. بدلا من البحث عن وسيلة لاستبقاء هؤلاء المقهورين في دائرة الضوء والاهتمام والحرص العالمي، راحوا يكتفون بتأسيس رابطة للإتيان بحق راحل واحد من عشرات يقضون نحبهم ويلقون حتفهم في الأسبوع الواحد، وفي نفس الأيام التي يهتمون فيها كإعلاميين بخاشقجي، وإن استحق هذا الاهتمام، فإن العشرات من غيره من الشهداء والقتلى يستحقون الاهتمام أيضا.
إلى متى يستدرجنا الطغاة لمسلسلاتهم فحتى إن نجحنا بالظفر والنجاح في الإمساك بيد أحدهم وهي تذبح أخا له في الإنسانية لمجرد أنه عارضه بعد أن كان في معسكره؟لينتظر غيره من الطغاة للتأكد من انحصار اهتمامنا في الضحية الأولى ليزج في ملحمة الدماء التي لا تنتهي بأحد عشر ضحية جديدة في مصر وغيرهم من الروهينغا وهلم جرا.
متى يستطيع المعارضون للأنظمة السفاحة التحرر من الاحتفاء ببعض فعل هذه الأنظمة.. وقول لا المقننة برأي الشاعر الراحل نجيب سرور إلى منافحة ومكافحة كل جريمة قتل على حدة بما تستحقه.. وبما يُفوت على الطغاة خططهم ومسلسلاتهم؟!