لا شك في أن الوضع السياسي في
تونس قد مر بفترات صعبة منذ سقوط المخلوع، أي طوال الفترة الانتقالية والمجلس التأسيسي وما بعد انتخابات 2014 التشريعية والرئاسية. ولكن ميزة الأزمة الأخيرة التي تكاد تعصف بالمسار الانتقالي برمته؛ أنها تكاد تكون مسألة "داخلية" يتواجه فيها طرفان من منظومة الحكم التقليدية التي هيمنت على الحياة السياسية في تونس منذ بناء ما سُمّي بالدولة الوطنية.
قد يعترض معترض على هذه المقدمة بأن الأزمة تتجاوز حزب نداء تونس وحرب "الشقوق"، إذ ينخرط فيها أطراف كثيرون، مثل حركة
النهضة التي تُعدّ الداعم الأساسي لرئيس الحكومة
يوسف الشاهد؛ في صراعه ضد رئيس الجمهورية وابنه، كما تنخرط في هذه الحرب المفتوحة أطراف أخرى مثل الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف والجبهة الشعبية، وغيرها من القوى الداعمة لرئيس الجمهورية ولما تبقى من نداء تونس بقيادة نجل الرئيس. ولكنّ اصطفاف هذه الأطراف لا يجعل منها طرفا "داخليا" في الصراع، ولا يُغير من طبيعة المعركة شيئا: إننا أمام الشكل الأخير من صراعات "الإخوة الأعداء" في النواة الصلبة لمنظومة الحكم، بقصد الاستحواذ على ميراث "الأب"، أي المخلوع. ولا تحضر باقي الأطراف إلا لترجيح كفة أحد مراكز القوى في النواة الصلبة لمنظومة الحكم، لا لتحل محله أو لتعيد بناء منطق السلطة ورهاناتها داخليا وخارجيا.
إذا ما انطلقنا من هذه الفرضية (وهي أن الصراع الحالي بين"الرئاستين" هو لحظة من لحظات البحث عن التوازنات النهائية لمنظومة الحكم الدستورية- التجمعية، مع استحضار أن أغلب الأطراف المتخندقة مع الشاهد أو مع
السبسي ما هي في نهاية التحليل إلا ملحقات وظيفية بهذه المنظومة)، فإننا سنضع الصراع الدائر بين رئيس الدولة وابنه، وبين رئيس الحكومة وحلفائه في مداره الصحيح الذي تكاد مختلف المقاربات أن تخفيه تماما بتركيزها على جزئيات وإشكاليات تحجب جوهر الصراع أكثر مما تساعد على تفسيره.
سواء أكانت هذه الحكومة هي "حكومة النهضة"، إذا ما نظرنا إلى القوة السياسية الداعمة لرئيس الحكومة انطلاقا من حجة"الاستقرار الحكومي" والدفاع عن الحد الأدنى من مكاسب الانتقال الديمقراطي، أم كانت حكومة "التجمعيين الجدد"، إذا ما نظرنا إليها انطلاقا من عدد الوزراء الذين هم من "التجمعيين الصرحاء" أو "المؤلفة قلوبهم وجيوبهم" بامتيازات التجمع وورثته ماديا واعتباريا، فإن الحكومة التي يقترحها رئيس الحكومة هي بالتأكيد "حكومة المنظومة"، وتحديدا حكومة مراكز القوى الأكثر فاعليه فيها. ويبدو أن الخيار الأساسي الذي تعكسه هذه الحكومة هو "التطبيع النهائي" مع حركة النهضة والقبول بها شريكا رئيسيا في منظومة الحكم، لكن بشرط قبول النهضة بأن تتحرك ضمن بنية سلطوية ونسق رمزي؛ ليس لها حق تعديل ما انبنى عليهما من خيارات كبرى داخليا وخارجيا.
إن قراءة بسيطة لتركيبة الحكومة ستجلعنا نقف على رسائل سياسية كثيرة يبعث بها رئيسها لأكثر من جهة في الداخل والخارج:
- رسائل للداخل: توزير كمال مرجان الذي كان مرشحا لخلافة المخلوع ابن علي قبل الثورة، وما يعنيه ذلك من إرضاء للنواة الجهوية للحكم وطمأنة لها فيما يخص مستقبلها بعد الانتخابات القادمة.. ودخول حزب مشروع تونس الذي كان يقف على يسار نداء تونس من جهة العداء للنهضة وتغذية للصراعات الهووية، وهو ما يعني توسيع دائرة التطبيع مع حركة النهضة داخل "العائلة الديمقراطية"، وإعطاء إشارة إيجابية للتونسيين بأن الحكومة الجديدة ستتحرك ضمن أفق "الإنجاز"، لا ضمن أفق المناكفات الأيديولوجية التي أرهقت البلاد والعباد. كما أن وجود وزراء محسوبين على نداء تونس - رغم برودة علاقتهم بحزبهم الأم - هو رسالة قوية لأنصار هذا الحزب؛ مفادها أن يوسف الشاهد ليس معاديا لحزبهم، وإنما هو "رجل تصحيح" ما زال يرفض إلى هذه اللحظة القطع مع النداء أو تأسيس حزب بديل، رغم امتلاكه لكتلة نيابية تسمح له بذلك.
- رسائل للخارج: لعل أهم هذه الرسائل هي تلك التي يبعثها تولية روني الطرابلسي، الذي هو مواطن تونسي مزدوج الجنسية، ويُعدّ من أكبر المدافعين عن التطبيع مع الكيان الصهيوني، انطلاقا من الحج إلى معبد الغريبة بجزيرة جربة. ولا شك أن هذه الرسالة تعبّر عن "تضامن" جميع مكوّنات الحكومة (بنهضوييهم وتجمعييهم ويسارييهم) في هذا الخيار الاستراتيجي. أما الرسالة الثانية، فهي طمأنة القوى الدولية والإقليمية بأن وجود النهضة في الحكم لن يغيّر شيئا من خيارات الدولة داخليا وخارجيا، سواء تعلقت تلك الخيارات بالتبادل اللامتكافئ للخيرات المادية والرمزية، أو تعلقت بـ"النمط المجتمعي التونسي" وما تحكمه من أساطير تأسيسية تسند البنية الجهوية- المالية- الأمنية للسلطة. وأما الرسالة الثالثة الموجهة إلى الخارج، فهي تأكيد "لاوظيفية" رئيس الجمهورية وما تبقى من حزب ابنه، أي ضرورة مراهنة القوى الإقليمية على يوسف الشاهد وحلفائه، وسحب أي دعم للرئيس وابنه في الاستحقاقات الانتخابية القادمة.
لكنّ نجاح هذه الرسائل في أداء وظيفتها تفترض مقاومة ضعيفة من رئيس الجمهورية وابنه، بل تفترض قبل ذلك كله رفع الدعم عنهما بصورة كلّية. فلا شك في أن هامش حركة رئيس الدولة لا تحدده التوازنات الداخلية؛ بقدر ما تحكمه توجهات القوى الإقليمية والدولية الأكثر نفوذا في تونس. ولكننا نرجح أن رئيس الحكومة ما كان ليدفع بالمواجهة مع رئيس الدولة إلى نقطة اللاعودة إلا بعد أن أخذ تطمينات، بل ضمانات من الخارج بقبول التوازنات التي تبشّر بها تركيبة الحكومة الجديدة: الشراكة بين المنظومة التجمعية بنواتها الجهوية المعروفة وبين النهضة واليسار المرتد عن منطق الصراع الطبقي وعن منطق الاستئصال، مع إعطاء دور مركزي ليوسف الشاهد بعد الاستحقاقات القادمة بصفته الشخصية أو بصفته زعيما لحزب قد يضطر إلى تأسيسه في مرحلة ما.