كتب

جدل تونسي حول تقرير الحريات ومساواة الرجل والمرأة 2من2

تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة بين المرأة والرجل أحيا نقاش الهوية والانتماء مجددا في تونس

الكتاب: تقرير الحريات الفردية والمساواة ـ جدل الفضاء الافتراضي
الكاتب: عبد السلام الزبيدي 
الناشر: سوتيميديا للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى: تونس ـ أغسطس 
 2018،( 514 صفحة من القطع الكبير).

يُسلط الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني في الجزء الثاني من عرضه لكتاب "تقرير الحريات الفردية والمساواة ـ جدل الفضاء الافتراضي"، على موقف المجتمع المدني الداعم منه لفلسفة التقرير ومقترحاته أو الرافض لها، من تقرير لجنة الحريات.

حُظي تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة باهتمام النخب السياسية والفكرية التونسية والعربية والإسلامية، بالنظر إلى صلة الملفات التي طرحها بمفاهيم دينية راسخة. وبينما انحازت التيارات التقدمية واليسارية إلى ما جاء في التقرير، فإن التيارات المحافظة، التي أكدت تمسكها بالحرية، تحفظت على ما جاء في التقرير من توصيات.

 

مدخل لنقاش مجتمعي


استنكر حزب الوطنيين الديمقراطيين في بيان صادر له يوم الجمعة 29 حزيران / يونيو الماضي، ما اعتبره "حملة التشويه والتكفير التي تتعرض لها لجنة الحريات الفردية والمساواة". كما ندّد الحزب بما سماه "حملات ثلب وتشويه منظمة وممنهجة ضد أعضاء اللجنة، وضد كل صوت دافع عن التقرير وصلت إلى هتك الأعراض والتكفير والتحريض على العنف".

واعتبر حزب "الوطد" أنّ عمل هذه اللجنة يمثل مدخلا لانطلاق نقاش مجتمعي حول قضايا حقيقية ومهمة من أجل تقدم مجتمعنا، يحق لجميع التونسيين والتونسيات المشاركة فيه في كنف احترام روح التعدّد والاختلاف. ويدعو كل القوى الديمقراطية والتقدمية المدنية والسياسية إلى توحيد صفوفها والعمل من أجل الدفاع عن الحريات العامة والفردية، وتكريس المساوة التامة والفعلية بين المواطنين والمواطنات، وفق نص البيان.

من جانبه اعتبر أيمن العلوي عضو مجلس نواب الشعب عن الجبهة الشعبية، أنّ تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة هو مشروع لمجلة حريات وتونس في حاجة إلى تعزيز مكتسباتها من الحريات العامة والفردية، وقد رأينا في الكثير من المنعرجات تهديدا واضحا لهذه الجماعات الأكثر رجعية في الفكر. لذلك نحن بحاجة إلى ضمانات قوية للدفاع عن هذه المكاسب". 

ولم يستثن العلوي التهديدات التي تمثلها السلطة السياسية القائمة في تونس اليوم على مكاسب الحريات، معتبرا أن التقرير ليس ضمانة كاملة وجدية للحفاظ على منظومة الحريات، لأن الضمانات هي مؤسساتية بالأساس وأغلبها معطلة، رغم أنها تعد قوام الديمقراطية.

وأكد العلوي أن الجبهة الشعبية ليس لها أي إشكال مع المبادرة من حيث المضمون، لكن المشكل يبقى على مستوى التوظيف لخدمة استقطاب سياسي ثنائي على أساس الحداثة لفضّ صراعات سياسية. وفي سياق حديثه قال العلوي، "إن الحرية ليست ملفا للتوافقات وهي قيمة لا تخضع للاستقطاب السياسي، ونرفض أي مقاربة تخضع المبادئ الكبرى للديمقراطية والحرية والجمهورية إلى التوافقات".

ورأى عبد الحميد الجلاصي القيادي في حركة "النهضة"، "أنه من الناحية المبدئية لا ضير في مناقشة كل القضايا، ومن المهم دعم منظومة الحريات الفردية، ولكن من ناحية المنهج كنا نفضل اختيار توقيت أحسن، إذ من غير الناجع في السياسة مراكمة الملفات، حيث يعلم الجميع وضع الأزمة السياسية وحالة الإحباط الاجتماعي، وهي ليست الأوضاع المناسبة لمناقشة قضايا على علاقة بمعتقدات الناس أو المستقر من أعرافهم".

وحسب الجلاصي، فإنه سيتم تشكيل اللجان الضرورية للمساهمة في هذا الحوار المجتمعي، لأهميته في التعامل مع المقترحات بنوع من التصنيف، حيث يتم التفعيل أو الإقرار بما يسهل التوصل فيه إلى اتفاق مع التمهل في القضايا الخلافية الكبرى.

 

اقرأ أبضا: تقرير "لجنة الحريات" يؤجج الصراع بين علماء الدين ويسار تونس

وكان صلاح الدين الجورشي أوضح في تصريحه على موجات راديو "جوهرة إ‘ف إم" المحلي، أنّ في المسائل التي تم تسريبها المتعلقة بلقب الأم، حيث ينسب لأبيه ويمكن إضافة لقب أمه في حال اختيار الوالدين، أو عند رغبة المعني إضافة لقب أمه عند بلوغ سن الرشد تكريما للأم، وفيما يتعلق بالمساواة في الإرث اقترحت اللجنة في حال وفاة صاحب التركة قبل القسمة، المساواة بين الأشقاء ذكورا وإناثا بنص القانون بما أن المساواة إحدى مقاصد الدين.

وعن موضوع المثلية الجنسية، قال الجورشي: "يجب الإقرار بوجود الظاهرة مع منع الممارسات المهينة لكرامة الإنسان؛ لأن الفرد حرّ في جسده". ولفت التقرير للانتباه إلى أنّ آخر تنقيح لمجلة الأحوال الشخصية، استهدف التمييز ضد المرأة وقد مرّت عليه أكثر من عشر سنوات، إذ يعود إلى قانون 14 أيار / مايو 2007، الذي وحّد سنّ الزواج بين الجنسين، في حين ترجع آخر القوانين التي رفعت بعضا من مظاهر التمييز ضد المرأة إلى 1 كانون أول / ديسمبر 2010 تاريخ إرساء المساواة بين الأب والأم التونسيين في إسناد جنسيتهما إلى أبنائهما حسب ما جاء في التقرير.

 

رأى قسم آخر من التونسيين أن طرح الرئيس التونسي لا يخلو من التوظيف السياسي الذي يخدم مصلحة الباجي قائد السبسي نفسه

بقدر ما تم الثناء على طرح رئيس الجمهورية ومبادرته الجريئة، التي تدخل في سياق مزيد دعم حقوق وحريات ومكتسبات المرأة (دعم الحقوق المادية عبر المساواة في الإرث، ودعم الحريات عبر تمكينها من الزواج من الشخص الذي تريد)، بقدر ما رأى قسم آخر من التونسيين أن طرح الرئيس التونسي لا يخلو من التوظيف السياسي، الذي يخدم مصلحة الباجي قائد السبسي نفسه وكذلك حزبه الأصلي نداء تونس، لا سيما مع اقتراب مواعيد استحقاقات انتخابية مهمة: أولها في الانتخابات البلدية في كانون أول / ديسمبر الماضي، وأيضا في الانتخابات التشريعية، والرئاسية في سنة 2019.

لقد أصبحت المرأة التونسية مصدرا من مصادر الشرعية للسلطة السياسية القائمة في تونس، سواء في عهد بورقيبة، أم في عهد الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي، الذي صوتت لانتخابه في نهاية خريف 2014، مليون امرأة، نظرا لوجود علاقة جدلية بين الطرفين، إضافة إلى المصالح المختلطة والمتشابكة. وبذلك أدّت أصوات النساء دورا حاسما في فوز مرشح النداء الباجي قائد السبسي على حساب منصف المرزوقي، وبلغ عدد أصوات الناخبات 60 بالمائة من مجموع الأصوات التي حصل عليها الرئيس الباجي، الذي اعترف به آنذاك، وعبر عن امتنانه لنساء تونس اللواتي صوتن لصالحه. ويبدو أن قائد السبسي قرأ حسابا للمحافظة على هذا "الخزان الانتخابي" في صورة تفكيره في إعادة الترشح لرئاسية 2019 وهو ما لم ينفه مؤخرا في أحد تصريحاته، إلى جانب فرضية تفكيره أيضا في المحافظة على تقدم الحزب الذي أسسه "نداء تونس". 

 

مخاوف من صعود الإسلاميين


أذكى وصول حركة النهضة إلى السلطة عقب انتخابات 23 تشرين أول / أكتوبر 2011، الخوف المشترك بين المدافعين عن المشروع الوطني الحداثي والدولة المدنية والمرأة، على التخندق في الخندق الأيديولوجي والسياسي الواحد، باعتبارهما المستهدفين من مشروع حركة النهضة القائم على استراتيجية التمكين، والهيمنة على مفاصل الدولة بالتدريج. فالمدافعون عن الدولة المدنية  في تونس يتفاخرون أنهم أسهموا في  تحرير المرأة، بوصفها الضامن الوحيد للمحافظة على مكاسبها أمام مشروع الإسلاميين، واستخدامها كبعبع تخويف ضد المجتمع ككل بشكل عام، وضد المرأة بشكل خاص. فيما أصبحت المرأة التونسية توفر للسلطة الحداثوية والعلمانية التعبئة والمساندة اللازمة.

التقرير وجدل الهوية في تونس 

بما أنّ ما جاء في التقرير ينسجم كليا مع المبادئ الدستورية، والدستورالتونسي عامة، الذي  يُعدّ المعبّر الأول والأخير عن إرادة الشعب، الذي أقرّ مبدأ المساواة بين جميع المواطنين، بوصفه مبدأ دستوريا أساسيا، مثلما أقرّ جملة من الحقوق والحريات، ومنها حرية الضمير، فضلا عن أن مجلة الأحوال الشخصية التونسية التي صدرت في نسختها الأولى في 13 آب / أغسطس 1956، قبل صدور أول دستور لتونس المستقلة (1959)، قد احتوت على قوانين "ثورية" حقيقية، وهي أكثر تجذّرا وثورية في مجالات عدة من مقترحات اللجنة اليوم، فإنّ التحجّج بأنّ ما جاء في التقرير يهدّد الهوية مبنيٌّ على وهم، وعلى تعلّات غير موضوعية بالمرّة، فالهوية العربية والإسلامية لم تمنع، في لحظات تاريخية عديدة سابقة، أن تخط تونس لنفسها مسارا خاصا في مجال الإصلاحات القانونية، الرامية إلى إقرار مبادئ الحقوق والحريات والعدالة والمساواة والإنصاف، فضلا عن مبدأ علوية القانون. 

ولعل النقطة المثارة في هذا الاعتراض من المؤسسة الدينية التقليدية على التقرير، تتمثل في موضوع الهوية. وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نميز بين صيغتين أو رؤيتين للهوية: الأولى، كما تبنّتها الدولة الوطنية التونسية، وطرحها تقرير الحريات، فيرتبط لديها مفهوم الهوية بالمشروع الوطني الحداثي: أي بالفاعلية الإنسانية الحية، وبفكرة التاريخ والتغير ومفهوم التقدم. إنها هوية واقعية، وهي علاقة منطقية ومفهوم كلي، فكري، لكنها تحيل على التغير والتطور والصيرورة التاريخية، ومنطق الشكل ومفهوم التشكل، وتؤسس للحرية بما هي وعي الضرورة وللديمقراطية.

والرؤية الثانية، أي الماضوية للهوية، هي التي نجدها في الموروث الديني، وفي التراث و"الثقافة الشعبية"، فيتحول لديها مفهوم الهوية إلى مفهوم الجوهر الثابت والسرمدي. إنها الصيغة التقليدية أو الدينية للهوية التي ترفض الاختلاف والتعدّد، فمقولة الجماعة، أو مقولة الأمة أوالشعب أو الطبقة أو الحزب، نافية للإفرادية، لاختلاف الأفراد الحقيقي، للمغايرة، والتعدّد، أي نافية للواقعي الفعلي، ونافية للحرية، فضلا عن أنها مقولات غير تاريخية أو لاتاريخية، بل جواهر وماهيات ومطلقات. تقيم هذه الصيغة للهوية التي تدافع عنها المؤسسة التقليدية في تونس الوثنية على الصعيد المعرفي، والاستبداد على الصعيد السياسي، ولعل في وقائع التاريخ العربي الإسلامي، القديم والحديث والمعاصر، ما يؤكد ذلك.

فالفكر الديني التقليدي الذي تتبنّاه المؤسسة الزيتونية في تونس، والجماعات التي تدور في فلكها، وكذلك بعض تيارات الإسلام السياسي الموجودة في الحكم، تفصل جوهر العرب والإسلام عن الواقع والتاريخ، وهذا الفصل هو من أبرز خصائصه. عند ذلك، نكون إزاء الهوية الفكرية والثقافية الدينية التي تعيش في التراث، وتكرّس الانغلاق، من ثقافة دينية تعيد إنتاج الماضي بكل مشكلاته، وتتكيّف مع الانتهاك الاستعماري وشروط الهيمنة الإمبريالية الأمريكية، ومع الصهيونية والعنصرية والرجعية العربية، ومع التأخر التاريخي والاستبداد السائدين في العالمين العربي والإسلامي، وتتغنّى مع ذلك بالخصوصية، وتروّج أطروحات معادية تماما للمشروع التحديثي والتنويري الذي بذلت فيه النخب التونسية، منذ أزيد من قرنين جهودا مضنية. وبذلك تكون هذه الهوية التقليدية ارتكاسا قبيحا وتعويضا، لا معنى له عن الذل والامتهان والفرقة والتشتت والضعف. 

لا يريد المجتمع التونسي المنفتح على الحداثة الغربية، بكل منطوياتها الفكرية والثقافية والسياسية، أن يظل سجينا لعقدة الهوية، فهويته ليس ما كان عليه ذات يوم فحسب، بل ما هو عليه اليوم، وما يريد أن يكونه في المستقبل، فسؤال الهوية الذي تحدثت عنه، سواء بالسلب أو بالإيجاب، ليس له من جواب منطقي وتاريخي، إلا في المجتمع المدني الحديث، بوصفه مجتمع التعدّد والاختلاف والتعارض، ودولة الحق والقانون المبنيين على أسس ديمقراطية وإنسانية، فالمجتمع الذي يلغي حرية الأفراد واستقلالهم وذاتيتهم، إنما يلغي حريته واستقلاله وذاتيّته، لأنّ إلغاء الفردي والخاص هو إلغاء للعام. 

 

لا يريد المجتمع التونسي المنفتح على الحداثة الغربية، بكل منطوياتها الفكرية والثقافية والسياسية، أن يظل سجينًا لعقدة الهوية،

وكما يقول المفكر الراحل، إلياس مرقص: إذا ما ألغينا حرية الأفراد، وأكدنا الهوية، لن يكون لدينا أي تطوّر، ولن يكون لدينا سوى "جوهر" وهمي للأمة، وعندئذ لا نكون إزاء مسألة الهوية، بل بالأحرى إزاء عقدة الهوية، والفرق كبير إلى ما لا نهاية بين مسألة الهوية وعقدة الهوية.. الهوية ذاتية حقيقية، ثقة بالذات، واستقلال فعلي، وحرية للإنسان، فردا ومجتمعا وأمة. 

يتمثل الهدف الأساسي من هذا الكتاب، في نقل صورة عن الجدل التونسي الداخلي حول التقرير وتسجيل مناخات الحوار وتقديم مادة للفاعلين في السلطة التنفيذية وللسلطة التشريعية، وللنخب السياسية والعلمية والثقافية، ولعموم التونسيين تكون مادة للنظر من زوايا متعددة في المستقبل القريب منه والبعيد. وقد رصد صاحب الكتاب الخيارات السبعة المتاحة أمام السلطات والمجتمع المدني في هذه اللحظة التاريخية، بدْءا بالفرض بقوة الدولة وصولا إلى الرفض بقوة الشعب.

 

إقرأ أيضا: جدل تونسي حول تقرير الحريات ومساواة الرجل والمرأة 1من2