ظن الكثيرون أن ملف التغيير بالعنف قد أغلق (للأبد) بعد ثورات الربيع العربي، والحقيقة أنه قد أغلق لعدة سنوات، ولم يكن هناك من أحد يجرؤ على طرح فكرة التغيير بالعنف في أي مكان في الوطن العربي كله.
ولكن بعد العثرة التي مرت بها ثوراتنا العربية منذ نجاح انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، اتضح أن الصورة مشوشة عند كثيرين، وأن كثيرا من الذين آمنوا بأن الحل الوحيد هو التغيير السلمي قد اهتز إيمانهم بعد أن رأوا مجازر العسكر ومعتقلاتهم وانتهاكاتهم.
في البداية، لا بد أن أسجل أن اهتزاز هذا الإيمان طبيعي، وأن كل الذين تشككوا في جدوى السلمية لهم عذرهم. وحديثنا اليوم ليس تقريعا وتوبيخا، بقدر ما هو تذكير وحوار.
* * *
لقد مرّ الوطن العربي بتجارب تغييرية كثيرة حملت السلاح، وكانت خلاصة هذه التجارب الفشل الذريع!
لا أتحدث هنا عن إخلاص هؤلاء الذين حملوا السلاح، ولا أقيّم ولاءهم لأوطانهم، أو إيمانهم بأفكارهم، بل أتحدث عن التقييم العام لتلك التجارب: هل استطاعت أي تجربة من تلك التجارب أن تغير شيئا في مجتمعاتها؟ هل استطاعت أن تغير أي نظام من الأنظمة؟
إجابة واحدة مجمع عليها... لا... لم يتمكن أي تيار من التيارات التي حملت السلاح في الوطن العربي من عمل أي تغيير يذكر!
* * *
لماذا فشلت تنظيمات التغيير بالعنف؟ ولماذا نجحت الحركات السلمية؟
التغيير بالعنف في العصور القديمة حين كانت المبارزة سيفا بسيف، ورمحا برمح، قبل اختراع الأسلحة الحديثة، وقبل أن تتكون الجيوش النظامية... كان ممكنا... ولكن الأمر اختلف تماما في العصر الحديث!
إن انضمام غالبية الشعب أو غالبية التيارات السياسية لتيار العنف مستحيل، بينما انضمام الغالبية لتيار السلمية ممكن، بل إنه قد تحقق عشرات المرات، وحين تحقق بشكل شبه نموذجي سقط مبارك، وسقط ابن علي، وسقط صالح، وسقط من قبلهم سوهارتو وبينوشيت وماركوس، وغيرهم كثيرون!
لقد سقط مبارك في التجربة المصرية، وكان في لحظة سقوطه صاحب نظام راسخ، وسلطة مطلقة، مدعوما من العالم كله.
حمل السلاح سيظل خيارا لأقلية منظمة يجمعها رابط ما (فكري، عقدي، قبلي)، وإذا وصلت هذه الأقلية للحكم فسوف تقضي على الآخرين، وتقصي المخالفين، ولم يحدث في التاريخ الحديث أي تغيير بالعنف أنتج حكما ديمقراطيا!
من ينتصر بالسلاح سيحكم بالسلاح!
من ينتصر بالسلاح سيدفع ثمن حصوله على السلاح من استقلال الدولة الوطني.. ومن قدراتها العسكرية، ومن ثرواتها وخيراتها العامة... وستكون تلك التنازلات أضعاف أضعاف ما يمكن أن يدفعه أي نظام منتخب وصل للحكم بفضل قوة الجماهير.
* * *
البعض يظن أن فكرة التغيير السلمي ساذجة، وغير واقعية، فمواجهة الأنظمة المدججة بالسلاح بصدور عارية أمر لا يعقل، وها هي نتيجة تلك الفكرة فمن نفذوها اليوم ما بين قتيل وأسير ومنفيّ!
والحقيقة أن من يدعون أن التغيير السلمي قد فشل في تحقيق النتائج المرجوة كلامهم عليه تحفظ من عدة وجوه؛ الوجه الأول: أنهم يتحدثون وكأن التغيير بالعنف قد نجح، أو على أقل تقدير حقق نجاحات أكبر من التغيير السلمي.
إنهم يتحدثون ناسين أن فشل التغيير السلمي كان في كيفية إدارة مراحل التغيير، وليس فشلا لجوهر الفكرة!
التغيير بالعنف لم يُسقط رئيسا، ولم يضعف جيشا، ولم يُحَصِّلْ من أي دولة عربية على أي تنازل للأمة.. بينما التغيير السلمي تمكن من إزاحة رؤساء، وتولية آخرين، ولكن كانت المشكلة في أن من أدار المرحلة لم يتمكن من الوصول بالسفينة إلى بر الأمان وسط العواصف التي كانت تضرب السفينة من كل اتجاه.
لذلك... أولى بنا أن نفكر في كيفية إنجاح التجربة التي فشلت فشلا نسبيا، بدلا من أن نحاول نفخ الروح في جثة التجربة التي فشلت فشلا ذريعا من جميع الجهات!
إن فشل التغيير السلمي كان نسبيا... فالمعركة ما زالت مستمرة، أما فشل التغيير بالسلاح فقد كان فشلا كاملا مكتملا!
الوجه الثاني: أن الفشل لم يكن كاملا... لأن التمرد ما زال موجودا (حتى لو كان تحت الرماد).
فما معنى وجود مئات الآلاف في السجون والمنافي سوى أن الأمة تقاوم؟
الوجه الثالث: أن تجارب التغيير بالعنف كان فشلها أكبر بكثير!
إنها تجارب لم يتعاطف معها أحد، ولم يأبه لفشلها أحد، ولم يندمج فيها أحد (سوى أصحابها)!
الوجه الرابع: أن فشل التغيير بالعنف كانت نتيجته إضعاف الأمة وتقوية النظام المستبد، أما فشل التغيير السلمي فهو تجربة من نتائجها إضعاف نظام
الاستبداد (لأنه دخل المعركة الأخيرة وسقطت كل أقنعته الوطنية المزعومة)، وفي نفس الوقت يقوي الأمة (حيث تخرج من المحنة منح عظيمة، وتتعمد قيادات وزعامات شابة بالحديد والنار، ويتكون وعي في النخب والجماهير ما كان ليتكون إلا بمثل هذا الاختبار القاسي).
نستكمل في الأسبوع القادم... ونرد على بعض الاعتراضات على فكرة التغيير السياسي السلمي...
موقع إلكتروني: www.arahman.net
بريد الكتروني: arahman@arahman.net