صرح غبطة البابا تواضروس الثاني
لأحد الصحفيين السعوديين، في حوار مطول يوم 4 كانون الأول/ ديسمبر 2018، بأن تعداد
الأقباط 17 مليونا، 15 مليونا في الداخل ومليونان في الخارج، موزعين على 60 دولة، كما ذكر غبطته. وقال إن هذه هي أرقام العضوية الكنسية، سواء شهادات المعمودية أو الوفاة.
لكن التعداد الإحصائي في
مصر تقوم به جهة واحدة فقط هي "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء" الذي تم إنشاؤه عام 1964م، ويرأسة الآن اللواء أركان حرب خيري بركات (من 12 شباط/ 2018. وتنتهج الدولة المصرية مؤخرا نهجا ثابتا فيما يتعلق بالتعداد الطائفي، وهي وإن كانت تقوم به وتحصيه، لكنها لا تعلنه، استنادا إلى أنه لا توجد في مصر أقلية وأغلبية، يوجد فقط مصريون يظللهم علم واحد ويستندون إلى دستور واحد. الأقباط أنفسهم يرفضون وصف أقلية، سواء لما يحمله الوصف من إشارات سلبية أو لكونهم مع إخوتهم المسلمين "لُحمة واحدة" في بنيان الوطن.
ونذكر هنا جميعا لجنة إعداد دستور 1923، وتلك المعركة القانونية والدستورية والسياسية، أيضا الاجتماعية، التى ثارت.. وقتها رفض الجميع (المسلمون والأقباط) رفضا تاما أن يعامل الأقباط كأقلية. سنرجع هنا إلى الكتاب العمدة في هذا الشأن، للعلامة الكبير المستشار طارق البشرى، "المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية"، حيث يقول: "وردت اللجنة برقية من وديع صليب المحامى بالمنصورة يعلن فيها معارضة القبط - قبل المسلمين - لهذا المبدأ، ورفضهم ما يزيد على الضمانات الشعبية العامة". ولن يخرج قبطي على الأمة بتقدمه للانتخابات لتمثيل الأقليات، وأهمية ذلك أن المعارضين لمبدأ لم يكن عزمهم ينحصر في مجرد إبداء الرأي، ولكن وصل إلى حد الدعوة لاتخاذ الموقف العملي الواجب الاتباع، وهو موقف المقاطعة الذي كان من الأسلحة الفعالة لثورة سنة 1919. وقد نشرت هذه البرقية بالصحف، فصارت بمثابة دعوة للرأي العام لاتخاذ هذا الموقف إذا حدث، وتقرر تمثيل الأقباط، وبالفعل طويت هذه الصفحة تماما.
فى نفس حوار، غبطة البطريرك أورد كلام منسوبا إلى وزير الخارجية الروسى لافروف عن خطورة تفريغ الشرق الأوسط من المسيحيين، وهو ما أخذه البابا ودفعه للأمام، وقال: "طبعا تفريغ الشرق الاوسط من المسيحيين ينطوى على خطورة شديدة ويهدد السلام". توقعنا أن يكون تعليق البابا في الأصل رفضا لحديث لافروف حول هذا الموضوع، فليس من شأنه الحديث فيه من الأساس، لا تأكيدا لكلامه أو - كما يقولون - صبا في وعائه.
نتذكر أنه في عام 2012م (آخر إحصاء رسمي لتعداد الأقباط في مصر والذى أثار أزمة كبيرة بين الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء وقت رئاسة وزير التنمية المحلية الحالي اللواء أبو بكر الجندي؛ الذي أعلن أن عدد الأقباط خمسة ملايين و130 ألفا)، أكدت الكنيسة وقتها (قبل ست سنوات!) أن عدد الأقباط يتراوح ما بين 15 و18 مليونا. وقد أثارت إحصائية الجهاز غضب الأنبا باخوميوس، القائم بأعمال البابا وقتها بعد تنيح البابا شنودة، وقال إن ما أعلنه رئيس الجهاز بشأن عدد الأقباط غير صحيح، "ولهذا أطالبه بإعلان إحصائيات عدد الأقباط في كل محافظة على حدة". الطائفة الإنجيلية أيضا رفضت ما أعلنه اللواء أبو بكر الجندي بشأن عدد الأقباط، وأوردت سببا (يبدو وجيها في رأي) أن إعلان عدد الأقباط مخالف لإعلان الأمم المتحدة عام 1985؛ الذي أكد على عدم الاعتماد في عمل الإحصائيات على الديانة أو السؤال عنها.
يبدو أن الحديث عن التعداد في هذا التوقيت من غبطة البابا؛ تتم الإشارة فيه لدقة الأرقام بشكل عفوي، وقد رأينا مدة الست سنوات ولا زال العدد كما هو (إذا صح الإعلان عنه في المرتين)، ناهيك عن أن الدولة وجهازها الإحصائي نزلا بالعدد إلى خمسة ملايين، فيما يبدو أنهما أخفيا إحصاء 10 ملايين!! فكيف يكون ذلك؟
كنت قد كتبت من قبل حديثا لاثنين من الرواد الوطنيين الكبار عن موضوع بالغ الحساسية والأهمية، وهما الدكتور حامد ربيع (1924-1989) والدكتور جمال حمدان (1928-1993).. الاثنان بالمناسبة انتهت حياتهما في ظروف غامضة. والموضوع كان عن المشروع الصهيونى لتفتيت مصر، وعن وجود دولة قبطىة تكون عاصمتها الإسكندرية. حين يتحدث حامد ربيع، صاحب "نظرية الأمن القومي العربي"، وحين يتحدث جمال حمدان، صاحب "شخصية مصر"، يجب على الجميع أن يسمعوا ويعوا (كما قال قس بن ساعدة)، فحديثهما في الأصل يلمس سويداء أي موضوع، فما بالك إذا كان يلمس "كيان الوطن؟
وسأذكر هنا فقط كلام الدكتور حامد ربيع، والذي نشره في مجلة الأهرام الاقتصادي (عدد 13 كانون الثاني/ يناير 1983)، عما تخطط له إسرائيل بالنسبة لمصر في الأمد البعيد، ولو نسبياً. وقال إن المخطط العام الذي يسيطر على القيادة الصهيونية؛ هو تجزئة المنطقة وتحويلها إلى كيانات صغيرة يسيطر عليها مفهوم الدولة
الطائفية. ومصر هي الدولة الوحيدة التي سوف تقف عقبة في وجه هذا المخطط، ولكن هذا لا يمنع القيادة الصهيونية من أن تفكر في تنفيذ نفس السياسة أيضاً بصدد "وادي النيل". بل إن المخاطر التي يتعرض لها هذا الكيان الصهيوني، لو ظلت مصر في تماسكها أولاً، وفي تضخمها الديمقراطي ثانياً، وفي تقدمها العلمي والتكنولوجي ثالثاً، هي قاتلة... والقيادة الإسرائيلية تعلم ذلك جيداً، فهل تقف صامتة؟ الخيال الصهيوني يتصور هذه التجزئة في أربعة محاور أساسية أولاً: محور الدولة القبطية الممتدة من جنوب بني سويف حتى جنوب أسيوط، وقد اتسعت غرباً لتضم الفيوم التي بدورها تمتد في خط صحراوي يربط هذه المنطقة بالإسكندرية التي ستصير عاصمة الدولة القبطية!! وهكذا تفصل مصر عن الإسلام الأفريقي (شمال أفريقيا) وعن باقي أجزاء وادي النيل. وزياد في تعميق هذه التجزئة، يتم ربط الجزء الجنوبي الممتد من صعيد مصر حتى شمال السودان (بلاد النوبة) بمنطقة الصحراء الكبرى، حيث تصبح أسوان العاصمة لدولة جديدة دولة تحمل اسم دولة البربر. أما الجزء المتبقي من مصر سوف تسميه مصر الإسلامية.. وهكذا يتم إضفاء الطابع الطائفي على مصر كلها، وعندئذ يصير طبيعياً أن يمتد النفوذ الصهيوني عبر سيناء ليستوعب شرق الدلتا، بحيث تصير حدود مصر الشرقية من جانب فرع رشيد. دائما أقول باستعصاء مصر على التقسيم والتفتيت، لكن ما قاله الدكتور حامد وفهمه في سياق ما يحدث الآن في المنطقة كلها؛ يجعلنا نقبض قبضا شديدا على وحدتنا وتماسكنا داخل الجماعة الوطنية الواحدة.
عاتب أنا على غبطة البابا تواضروس الثاني وحديثه عن تعداد الأقباط فهو يخالف بذلك نهج "الدولة"، كما يخالف الحس الوطني العام. وكان جديرا بغبطته، وهو صاحب الدراسات العلمية القيمة والحس السياسي الرفيع، أن يعتبر السؤال "لغما" من تلك الألغام التي دائما ما يضعها الصحفيون لمحاوريهم، وأن يعتبر أن الحديث عن "وحدة" الجماعة الوطنية أهم كثيرا من الحديث عن تعداد "يشرخ" وحدة الجماعة الوطنية.