الكتاب: التنافس الأمريكي ـ الروسي في الشرق الأوسط ـ الأزمة السورية أنموذجًا
الكاتب: سلمان الجبوري
الناشر: الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى ـ بيروت ـ لبنان 2018
تُعد سورية واحدة من أغلى بلاد العالم بالحضارات والتاريخ، والشواهد كثيرة ومتنوعة، إذ تعد متحفا كبيرا يحتوي مواقع أثرية وتاريخية تتعلق بأكثر من عشرين عهدًا مختلفًا من الحضارة الإنسانية، وتقع في بيئة حضارية تشكل قلب العالم مما يعرف بالعالم القديم، بما أنّها سادت حضارات متعددة ولها تاريخ متشابك في المنطقة.
أهمية تاريخية وموقع استراتيجي
وكانت سورية تحتل مكانًا مهمًا على طريق التجارة الدولية الممتدة من الصين إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط، لتواصل الرحلة برًا إلى أوروبا عبر تركيا، أو بحرًا عبر موانىء سورية وأرضها بلادالشام. كما كانت القوافل العربية تأتي من جنوب الجزيرة وشمالها. وكانت سورية جزءا من العالم الذي اكتشفت فيه الكتابة لأول مرّة.
تظهر القيمة الاستراتيجية والجيواستراتيجية لسورية أكثر في اعتماد الخارطة الطبيعية للمنطقة، أي قبل رسم الحدود السياسية المعاصرة للمنطقة، بدءا من سورية الطبيعية بحدودها الممتدة حتى جبال طوروس شمالاً، والمتوسط غربًا بما فيها جزيرة قبرص، وما بين شمال الحجاز مع سيناء جنوبًا، وجبال زاغروس شرقًا، حيث إيران متجاورة مع سورية الطبيعية بحكم الامتداد الجغرافي مع بلاد ما بين النهرين.
لكن هذه الحدود تقلصت تدريجيا ما بين الحربين العالميتين وما تم خلالهما من اتفاقيات دولية اقتضتها سياسة الانتداب على المشرق العربي، بعد توقيع اتفاقية سايكس ـ بيكو المعروفة عام 1916، وبعد تخلي فرنسا الاستعمارية لواء الإسكندرون لتركيا وضمه نهائيا في 23 حزيران (يونيو) 1939، فأصبحت حدود سورية السياسية الجديدة مشتركة من الشمال مع تركيا "كيليكيا وإسكندرون"، ومن الشرق مع العراق، ومن الجنوب مع الأردن، وفلسطين، وبقي الحد الغربي مفتوحًا على البحر الأبيض المتوسط نافذة مهمةعلى العالم.
وبذلك تشكل سورية قلب المنطقة العربية الذي يشكل جسر اتصال ما بين آسيا وأوروبا، وما بين آسيا وإفريقيا، على رأي هنري بولور سنة 1860 بقوله: "إنّ سورية كانت دائما تعد لدى أولئك الذين أنشأوا امبراطورياتهم في الشرق، المرتكز الخاص الذي يبنون عليه أي تخطيط عتيد للفتوحات الشرقية، فهي في الواقع حلقة اتصال بين إفريقيا من جهة وآسيا من جهة أخرى".
تحدّيات الدولة السورية مع بداية سنة 2011
بداية لا بد من الإشارة إلى أن الأزمة الطاحنة التي تعيشها سورية منذ بداية الربيع العربي، ليست وليدة تلك اللحظة التاريخية فحسب، بل تعود جذورها التاريخية إلى مرحلة سابقة، عندما تزايدت الضغوط الأمريكية على سورية هذه منذ الغزو الأمريكي للعراق في سنة 2003، وهي ضغوط مستمرة منذ أن طلب كولن باول وزير الخارجية الأمريكي السابق في أيار (مايو) من العام عينه، إنهاء دور سورية الإقليمي في لبنان وفلسطين والعراق، ووضعه في خدمة السياسة الأمريكية تجاه المنطقة.
وعلى الرغم من هذه الضغوطات الأمريكية والعزلة الخانقة التي عاشتها سورية وهي الدولة التي لطالما اعتبرت نفسها مفتاح الشرق العربي، وبيضة قبان الصراع العربي ـ الصهيوني والقضية الفلسطينية، ونقطة توازن الشرق والغرب في الوطن العربي، والجهة التي تمسك بالتوازنات العربية والإقليمية، منذ أن أخرجت مصر من دائرة الصراع العربي ـ الصهيوني، فإنّ الدولة السورية ظلت متمسكة بثوابتها الوطنية والقومية تجاه أزمات المنطقة، ولاسيما بعد أن أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية ترى في سورية عقبة كأداء فيما يتعلق بخلق نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط يقوم على حطام النظام السابق الذي كان هشًا ومفبركًا بدرجةغير قليلة.
اقرأ أيضا: الصراع الأمريكي ـ الروسي والعدوان على سوريا
بيد أن الدولة الوطنية السورية اعتقدت أن الدور الممانع والداعم للمقاومة، يمكن أن يوفر لها حصانة أمام عدوى فيروس الإنتفاضات العربية، لكنه لم يفعل هذه المرّة. فعندما انطلقت احتجاجات الربيع العربي في بداية سنة 2011، وأدّت إلى إحداث تغيير في النظم الحاكمة في كل من تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، صرّح أكثر من مسؤول سوري أنه لن تكون لتلك الاحتجاجات تداعيات على الواقع السوري، لأن سورية ليست مصر، وليست تونس. فقد تمكنت الدولة الوطنية السورية من الصمود في مواجهة كل التحديات المحلية، والإقليمية، والدولية التي واجهتها بعد سنة 2011. وكانت الحالة السورية أكثرها عنفًا، ودموية، وتدخلاً من القوى الإقليمية والدولية، ولاتزال سورية تعاني حربًا "إرهابية" طاحنة منذ أكثر من ست سنوات.
ويبدو أن رؤساء الدول الإقليمية والدول الاستعمارية الغربية ومعها الكيان الصهيوني، قد تناسوا صمود الدولة الوطنية السورية، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وظنّوا أنّ لحظة القضاء على الدولة الوطنية السورية قد حانت أخيرًا بعد طول انتظار. وأعاد بعض المحللين من أنصار تأسيس أنماط أخرى من الدولة (إسلامية، أوطائفية، أوغيرهما)، مثلما فعلوا بعد كل حدث جلل شهدته المنطقة العربية، الحديث عن أن الدولة الوطنية السورية لن تعود كما كانت قبل عام 2011.
لقد اعتقد المحللون والمعلقون في الوطن العربي، وفي بعض الأوساط الغربية المطلعة على الواقع السوري، على أن الحركة الاحتجاجية التي انطلقت من مدينة درعا، كانت لها دوافع اقتصادية واجتماعية، لا سيما أن السياسات الاقتصادية الانفتاحية المندرجة في نظام العولمة الليبرالية التي اعتمدتها السلطات السورية في مطلع الألفية الجديدة، أسهمت في تفاقم أزمة القطاع العام في المدن التي كانت تشكل الحصن الاجتماعي لنفوذ حزب البعث الاشتراكي، وازدياد السخط الشعبي على الحكومة السورية. فقدانساقت سورية في السياسات الاقتصادية الليبرالية، ولكن من دون تحقيق بشكلٍ موازٍ لهذا الانفتاح الليبرالي الحريات العامّة والخاصة المرادفة للحرية الاقتصادية، ومن دون تحقيق أيضا العدالة الاجتماعية، وبالتالي تقسيم منافع النمو والتنمية على مختلف الفئات والطبقات الشعبية.
رأسمالية جديدة
أرست الطبقة السياسية ـ الاقتصادية المهيمنة على السلطة في سورية نظامًا اقتصاديًا يمكن تسميته "رأسمالية جديدة"، الذي حَلَّ مَحَلَّ رأسمالية الدولة التي أرسيت في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، والتي كانت انفتحت على القطاع الخاص في أوائل التسعينيات من القرن العشرين، حتّى هدّد صعود هذا القطاع الخاص قبضة السلطة وطالب بالحريات السياسية والاجتماعية في منتصف هذا العقد.
لم تكن للحركة الاحتجاجية في انطلاقتها في المراحل الأولى بعد طبقي فحسب، بل رفعت أيضا شعارات سياسية أسوة بالشعارات التي رفعت في بلدان "الربيع العربي"،
أكثر البلدان العربية التي تتعرض في الوقت الحاضر للتفكيك والتشظي، والتقسيم على أساس طائفي وعرقي، هي تلك الأقطار التي تشكلت تحت وقع عدم الانفتاح على المعارضة
اقرأ أيضا: أمريكا تربك المحور الروسي في سوريا
باحثة أمريكية تُحذّر من تأثير الإسلاميين في هوليود