عاش جيلنا آمالا لكون
السودان بمثابة سلة الغذاء للعرب، وبإمكانه توفير الحبوب للعالم العربي، بدلا من استيراده
من الدول الأجنبية، لكن الحقيقة المرة أن السودان دولة مستوردة للقمح منذ عام 2001،
حسب آخر سلسلة بيانات سودانية زمنية متاحة.
كما أن السودان مستوردة للأرز
والعدس، ودقيق القمح والزيوت النباتية ومنتجات الألبان والخضر والفاكهة، وبكميات
كبيرة تخطت المليوني طن من القمح في غالب السنوات الماضية. ولأنه لا يكتفى غذائيا،
إلى جانب استيراده غالبية استهلاكه من السلع المصنعة، فقد أصيب السودان بالعجز
التجاري المزمن.
فخلال السنوات العشرين
الممتدة من 1998 وحتى العام الماضي، لحق العجز بالميزان التجاري في ما عدا أربع
سنوات فقط، نتيجة ارتفاع أسعار النفط خلال تلك السنوات، والذي كان السودان يصدر كميات
متوسطة منه، قبل انفصال جنوب السودان في تموز/ يوليو 2011؛ آخذا معه ثلاثة أرباع
كميات البترول التي كان يتم إنتاجها، لتزيد قيمة العجز التجاري للسودان بعد الانفصال
وحتى العام الحالي، والذى ظهرت نتائج الشهور التسعة الأولى منه.
ولم يختلف الحال في التجارة
الخدمية نتيجة الصراعات التي تمثل عامل طرد للسياحة، والعجز بخدمات النقل،
والنتيجة عجز دائم بالتجارة الخدمية أيضا، في ما عدا تحقيق فائضا محدودا عام 2016
بعد التحسن النسبي لإيرادات السياحة، والتي شهدت تزايدا بالأعداد الواصلة والإيرادات
السياحية في السنوات الخمس الأخيرة.
ورغم ما يرد من تحويلات من
السودانيين العاملين في الخارج، والبالغ عددهم مليونا مغترب، وما يصل السودان من
معونات أجنبية، فقد لحق العجز بحساب المعاملات الجارية السوداني خلال السنوات
العشرين الأخيرة بلا انقطاع، مما دفعه للاقتراض الخارجي، حتى بلغت ديون السودان 47
مليار دولار في العام الماضي.
38 عاما حربا أهلية
ويظل السؤال عن أسباب هذا
التردي للمؤشرات الاقتصادية السودانية، رغم ما يملكه من موارد زراعية وحيوانية
ومعدنية وبشرية. فمع بلوغ سكانه 43 مليون نسمة، محتلا المركز الثالث والثلاثين في عدد
السكان دوليا، فقد احتل المركز 118 في الصادرات السلعية، والمركز 110 في الواردات
السلعية، والمركز 59 في الناتج المحلي الإجمالي حسب سعر الصرف، والمركز 126 دوليا في
نصيب الفرد من الناتج المحلي، والبالغ 2899 دولارا سنويا.
ولقد تعددت أسباب كبوة
السودان، ومنها الحرب الأهلية الأولى ما بين الشمال والجنوب، والتي امتدت لمدة 17
عاما (1955 - 1972)، لتخلف وراءها نحو نصف مليون قتيل، والحرب الأهلية الثانية ما بين
الشمال والجنوب التي امتدت من 1983 وحتى كانون الثاني/ يناير 2005، بتوقيع الاتفاق
مع الجنوب على وقف الحرب، بعد أن راح ضحيتها حوالي مليوني شخص ونزوح أربعة ملايين آخرين.
السبب الثاني تمثل في الحصار
الدولي والعزلة السياسية والاقتصادية التى بدأتها الولايات المتحدة، منذ أيلول/ سبتمبر
1983؛ مع إعلان الرئيس السوداني جعفر النميرى قوانين الشريعة الإسلامية، وكذلك
الحظر التجاري والاستثماري الذي فرضتة الولايات المتحدة على السودان منذ عام 1997
وحتى تشرين الأول/ أكتوبر 2017، ووضعها السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب،
مما حال دون قدوم الاستثمارات الغربية إليه، وقلل من المعونات الغربية أيضا.
وها هي بيانات منظمة
التعاون الاقتصادي والتنمية الخاصة بمعونات الدول النامية في العام الماضي؛ تشير
إلى احتلال السودان المركز الواحد والعشرين بين الدول الأفريقية في قيمة المعونات
الواردة إليه، رغم كونه يحتل المركز السابع في عدد السكان بأفريقيا، ورغم ما فيه
من نسب عالية للبطالة، بحوالي 20 في المئة)، والفقر بحوالي 28 في المئة (نسب رسميا،
وهي أكثر من ذلك حسب تقديرات غربية)، إلى جانب الصراعات في دارفور وجنوب كردفان.
انقلابات عسكرية متكررة
والسبب الثالث يتعلق بالانقلابات
العسكرية التي تعرض لها السودان منذ استقلاله عام 1956، وأبرزها انقلاب ابراهيم
عبود عام 1958، والذي استمر لسبع سنوات، وانقلاب جعفر نميري في 1969، والذي استمر
لمدة 16 عاما، وانقلاب عمر البشير عام 1989، والمستمر حتى الآن لمدة 29 عاما متواصلة.
وهكذا حفلت الفترة منذ الاستقلال وحتى الان (62 عاما) بنحو 52 عاما من حكم الانقلابات
العسكرية، بخلاف عام حكم سوار الذهب.
ولم تنقطع محاولات الانقلابات
العسكرية، سواء في فترة حكم عبود أو نميرى أو البشير، مما زاد من الإنفاق العسكري
والأمني، مما انعكس على الموازنة الحكومة التي أصابها العجز الدائم منذ 2011 وحتى
العام الحالي، مما أثر على الإنفاق على الخدمات الحياتية، ودفع السلطات لتقليل
الدعم، سواء على الوقود أو على الخبز، مما أسفر عن احتجاجات شعبية عام 2013، وفي
كانون الثاني/ يناير الماضي، وفى الشهر الحالي.
ومع خفض الدعم تزيد الأسعار،
حيث تخطى معدل التضخم الرسمي نسبة الثلاثين في المئة منذ كانون الأول/ ديسمبر 2016
وحتى تشرين الأول/ أكتوبر 2017، وفي العام الحالي تخطى التضخم نسبة الخمسين
بالمائة منذ يناير وحتى أبريل الماضي، ومنذ مايو وحتى أكتوبر كآخر بيانات متاحة
للتضخم، تخطت نسبة التضخم الستين في المئة بل لقد وصلت إلى 69 في المئة في تشرين
الأول/ أكتوبر.
ورغم لجوء الحكومات المتعاقبة
للاقتراض الخارجي، إلى جانب استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، لتغطية العجز
بميزان المعاملات الجارية المتضمن حسابات التجارة السلعية والخدمية ودخل الاستثمارات
وتحويلات العاملين والمعونات الدولية، إلا أن الميزان الكلي للمدفوعات للسودان
خلال السنوات من عام 2000 وحتى العام الحالي؛ لحق به العجز، في ما عدا فائض محدود في
ثلاث سنوات فقط، منها عامان قبل الانفصال، من بين السنوات الثماني عشر.
مشكلة سعر الصرف تمتد
للتسعينيات
أدى كل ذلك لتآكل الاحتياطيات
من العملات الأجنبية، والضغط بشدة على سعر الصرف للعملات الأجنبية. وتمتد مشكلة
سعر الصرف للجنيه أمام الدولار إلى التسعينيات من القرن الماضي، فرغم تدخل البنك
المركزي عام 2017 بخفض قيمة الجنيه السوداني أمام الدولار، ظلت السوق السوداء لها
اليد الطولى بالتعاملات، مما دفع البنك إلى ترشيد الاستيراد وضبط التعامل بالذهب.
لكن الغلبة ظلت للسوق
للسوداء، مما دفع البنك في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي لتعديل سعر الصرف
إلى 47 جنيها ونصف الجنيه للدولار، أي بقيمة أعلى من سعر السوق السوداء البالغ
وقتها 45 جنيها ونصف الجنيه، لكن عدم توافر الدولار دفع السعر في السوق السوداء
لتخطي السعر الرسمي المعدل، حتى بلغ في نهاية الشهر بالصرافات حوالي 55 جنيها
للدولار.
وهكذا، تبدو مشاكل السودان الاقتصادية
والاجتماعية متعددة ومركبة، بينما الدول الكبرى الغربية لا تمد له يد العون عن عمد،
بل إن الشبهات تتجه إليها في تحريك الاضطرابات في دافور وجنوب كردفان لتعطيل الاستفادة
من الثروة المعدنية في هذه المناطق، كما تُحجم المؤسسات الدولية، كالبنك وصندوق
النقد الدوليين، عن إقراضه.
وبينما يسعى السودان لتخفيف
ديونه الخارجية، والتي يرى أنها إذا كانت تبلغ 47 مليار دولار، فإن أصل الدين يبلغ
أقل من 18 مليار دولار فقط، والفوائد التعاقدية للدين تقل عن خمسة مليارات دولار،
بينما فوائد تأخير السداد تصل إلى 29 مليار دولار، إلا أنه لا أحد من المقرضين،
خاصة من دول نادى باريس المستحق لها حوالي 15 مليار دولار، يستجيب.. لتظل أحوال الاقتصاد
السوداني في حلقة مفرغة، من خلال عجز تجاري يقود لعجز بالميزان الكلي للمدفوعات؛
يؤدي لتراجع سعر صرف الجنيه السوداني، وعجز بالموازنة يقود لمزيد من التقشف وخفض
الدعم، مما يؤدي لمزيد من التضخم، ما يصنع بيئة خصبة للمزيد من الاحتجاجات الشعبية.
بين الحراك السوداني والثورة التونسية.. أكثر من شبه
تجارة مصر الأفريقية.. أرقام متواضعة