في ظل أجواء الاحتجاجات الأردنية والتونسية والفرنسية والسودانية المرتبطة بارتفاع
أسعار الوقود، حاول النظام
المصري تأجيل تنفيذ طلب
صندوق النقد الدولي بتطبيق آلية تلقائية لتسعير
الوقود؛ تجعل تحديد أسعاره المحلية مرتبطة بالأسعار العالمية صعودا وهبوطا، بدون تقديم دعم للوقود، وهو الأسلوب الذي يعيشه المصريون منذ عشرات السنين.
لكن صندوق
النقد الدولي ربط تطبيق الآلية التلقائية لتسعير الوقود؛ بالموافقة على منح مصر القسط الخامس من قرض الصندوق لمصر، والبالغ قيمته ملياري دولار. وكان البنك المركزي المصري قد وضع في حسبانه وصول ذلك القسط في كانون الأول/ ديسمبر، للوفاء ببعض الالتزامات الخارجية.
ومع تأخر وصول القسط، اضطر البنك للسحب من احتياطات العملات الأجنبية لديه بما يعادل قيمة القسط،
لتنخفض قيمة الاحتياطيات التي طالما تباهت السلطات المصرية بتزايدها، حتى وصلت إلى 44 مليار ونصف المليار دولار، بغض النظر عن كون مصدرها من القروض.
ولأن البنك المركزى في مأزق منذ أزمة أسواق الدول الناشئة، والتي نجم عنها بلوغ مبيعات الأجانب من مشترياتهم من أذون الخزانة المصرية 10 مليارات و706 مليون دولار خلال الشهور الثمانية، من آذار/ مارس وحتى تشرين الثاني/ نوفمبر 2018.
وانعكست تلك الأزمة على أرصدة البنوك التجارية المصرية من العملات الأجنبية، لتتحول من الفائض إلى العجز منذ شهر تموز/ يوليو الماضى، مع تزايد قيمة هذا العجز بالأرصدة من العملات الأجنبية خلال الشهور التالية.
اقتراض 7 مليارات دولار في 3 أشهر
ولقد ظهرت ملامح تلك الأزمة في بيانات ميزان المدفوعات المصري عن الربع الثالث من عام 2018، والتي كشفت عن بلوغ قيمة القروض التي تم الحصول عليها خلال تلك الفترة القصيرة سبعة مليارات و406 ملايين دولار.
ورغم ذلك، فقد انخفض الفائض في الميزان الكلي إلى 284 مليون دولا، مقابل أكثر من خمسة مليارات دولار في الربع المقابل من العام الأسبق، نتيجة تراجع إيرادات الصادرات غير البترولية،
والاستثمار الأجنبي المباشر، وخدمات النقل، وزيادة قيمة الواردات، ومدفوعات دخل الاستثمار.
ولأن السلطات المصرية تجهز منذ شهور لطرح سندات دولية في الأسواق الآسيوية والأوروبية لن تقل عن أربعة مليارات يورو، فليس من مصلحتها أن يطعن صندوق النقد في التزامها بتنفيذ برنامجه الإصلاحي؛ لأن ذلك يمكن أن يحول دون نجاح ذلك الطرح للسندات وما يليه في برنامجها للاقتراض الخارجي، ولهذا رضخت مصر لطلب الصندوق بربط أسعار المنتجات البترولية بالأسعار العالمية، مع طلب التدرج في التنفيذ الذي كان موعده منتصف حزيران/ يونيو المقبل.
ومن هنا، فقد أعلن رئيس الوزراء المصري بدء تنفيذ الآلية التلقائية لتسعير الوقود مع نهاية العام الماضى، وبدء التطبيق على نوع من البنزين غالى الثمن وقليل الاستخدام بين جموع المصريين، وهو بنزين 95 أوكتان، لتعريف المجتمع بالنظام الجديد، تمهيدا لتطبيقه على باقي أنواع المنتجات البترولية في النصف الثاني من العام الحالي.
وتزداد المخاوف من امتداد ربط أسعار المنتجات البترولية بالأسعار العالمية لها في ضوء كون مصر مستوردا صافيا للبترول. فحسب بيانات أوبك لعام 2017 فقد بلغ إنتاج خام البترول المصري 530 ألف برميل يوميا، في حين يبلغ حجم الطلب المحلي 855 ألف برميل يوميا، وبما يعني نسبة اكتفاء ذاتي تبلغ 62 في المئة واستيراد نسبة 38 في المئة من الكميات المستهلكة.
عجز مستمر بالميزان التجاري البترولي
ورغم تصدير مصر خلال عام 2017 نحو 170 ألف برميل يوميا، منها 139 ألف برميل من الخام و31 ألف برميل من المشتقات. فقد استوردت في نفس العام كميات أكبر بلغت 405 آلاف برميل يوميا، منها 87 ألف برميل من الخام و318 ألف من المنتجات البترولية، ولهذا يحقق ميزانها التجاري البترولي عجزا خلال السنوات الأخيرة؛ بلغ في العام المالي الأخير (2017/2018) نحو ثلاثة مليارات و717 مليون دولار.
وتشير بيانات جهاز الإحصاء الحكومي إلى أنه خلال العام المالي 2016/2017؛ بلغت نسبة الاستيراد من البنزين 43 في المئة من إستهلاكه، ومن السولار 56 في المئة من إستهلاكه ومن البتوجاز 57 في المئة من استهلاكه ومن المازوت 23 في المئة من استهلاكه المحلي.
وهو ما يعني أن أي ارتفاع في الأسعار العالمية ستكون له آثاره الواضحة على الأسعار المحلية للمنتجات البترولية. وكان قرار رئيس الورزاء المصري الأخير الخاص بالآلية التلقائية لتسعير الوقود؛ قد وضع ثلاث مكونات للتسعير التلقائي، هي سعر خام برنت، وسعر الصرف للجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي بنسبة 85 في المئة من السعر التلقائي، ونسبة 15 في المئة للتكاليف الأخرى، مثل النقل والتوزيع وغيره.
وهكذا نكون أمام ثلاث متغيرات تصب في مجملها في اتجاه ارتفاع للأسعار وليس لخفضها، فسعر خام برنت لعام 2019 (حسب توقعات العديد من المؤسسات الدولية) لن يقل عن 60 دولارا للبرميل. ولقد كانت وزارة المالية المصرية قد حددت سعر 67 دولارا للبرميل في العام المالي الحالي (2018/2019)، مع تكلفة دعم لأسعار المنتجات البترولية تبلغ 89 مليار جنيه.
استمرار الأسعار المرتفعة للنفط
وكان بنك جولدمان ساكس قد خفض توقعاته لسعر برميل برنت في العام الحالي إلى 62.5دولار، وبنك سوسوتيه جنرال بأكثر من 64 دولارا. وإذا كان صندوق النقد الدولي قد توقع سعر 69 دولارا للبرميل والبنك الدولي 74 دولارا للبرميل، فإن توقعات المؤسستين تمتا في شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضى مع أعلى أسعار للنفط في العام الماضي، ولذا يتوقع خفضهما للسعر المتوقع جزئيا.
المكون الثاني يخص سعر الصرف للجنيه المصري أمام الدولار، والذي أكدت مؤسسات عديدة أن البنك المركزى المصري يكبت تحرك سعره تحت 18 جنيها منذ فترة، لكنه لن يستطيع الاستمرار في تلك السياسة لوقت طويل، حيث توقعت مؤسسات عديدة تحرك سعر الصرف إلى 19 جنيها للدولار، وتوقع بعضها تحركه إلى 20 جنيها، وبعضها إلى 21 جنيها في العام الحالي والعام المقبل.
وفي ما يخص التكاليف، فشركات البترول المصرية محملة بأعداد كثيرة من العمالة الإدارية ذات الأجور العالية، والتي يتم تحميل تكلفتها على سعر البيع النهائي، إلى جانب قِدم عدد من مصانع التكرير المصرية وتشغيل بعضها بطاقة أقل من قدرتها التصميمية، حتى بلغت نسبة الإنتاج المكرر 66.5 في المئة من مجمل طاقة التكرير.
ومع تنوع استخدامات المنتجات البترولية يمكن توقع الأثر
الاقتصادي والاجتماعي السلبي، نتيجة ارتفاع أسعار المنتجات البترولية، مع رفع الدعم نهائيا هذا العام، حسب الاتفاق مع الصندوق والربط بالأسعار العالمية. فإذا كان البنزين يتجه أساسا لقطاع النقل، فإن السولار يستخدم 29 في المئة منه في النقل و25 في المئة في الصناعة و1 في المئة في الزراعة و40 في المئة في أنشطة أخرى، كما يستخدم البتوغاز في المنازل والصناعة والتجارة والخدمات، مما يعني تعدد صور التأثير الاقتصادي مجتمعيا. فمكون النقل يدخل في كل السلع، سواء عند نقلها من الموانئ إلى المصانع، أو من المصانع وتجار الجملة إلى تجار التجزئة، إلى جانب انتقال الأشخاص، وزيادة التكلفة لبعض المنتجات الصناعية والخدمية.
وهذه الزيادة تجيء مواكبة لرفع مرتقب في أسعار الكهرباء في بداية تموز/ يوليو القادم، واستمرار حكومي في رفع أسعار الخدمات الحكومية بشكل مباغت عادة، مما يزيد من معاناة الطبقات الفقيرة والمتوسطة المصرية التي زادت معدلات الفقر فيها خلال السنوات الأخيرة.