لا يحتاج الحكام العسكريون إلى دساتير تنظم إدارة شؤون البلاد، وتنظم العلاقات بين السلطات وبعضها، وبين الشعب والسلطة.. هؤلاء الحكام يعتبرون كلامهم وقراراتهم وسياساتهم هي الدستور، وأي شيء آخر هو مجرد نصوص أو كلمات جوفاء لاستكمال الديكور، والضحك بها على البسطاء، وأحيانا على العالم الخارجي. وقد كان الرئيس الراحل أنور السادات هو الأكثر صراحة في التعبير عن هذه القناعة في رده على الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين؛ الذي لفت انتباهه أن الدستور لا يبيح تعدد الأحزاب (وكان السادات قد اتخذ قرارا بذلك، رغم أن الدستور وقتها كان قائما على فكرة الحزب الواحد)، وقال السادات قولته الشهيرة: "دستور إيه يا بهاء.. إحنا اللي بنكتب الدساتير"، ولذلك لم يجد السادات أي مشكلة في تعديل النص الخاص بمدة الرئاسة من مدتين إلى مدد مفتوحة في أيامه الأخيرة، لكنه لم يستفد من هذا التعديل الذي أبقى مبارك في الحكم 30 عاما بعد ذلك.
كان حديث السادات المستهزئ بالدستور في العام 1977، أي بعد ستة أعوام على صدور دستور 1971، لكن السيسي لم يحتمل مرور خمس سنوات على دستور حشد له هو شخصيا كل إمكانيات الدولة، وتغنى به المغنون ورقص له الراقصون، ووصفوه بأنه أعظم دستور في الكون، فبدأ التحرش بهذا الدستور منذ اللحظات الأولى لسيطرته على كرسي الرئاسة، مطلقا جملته الشهيرة أن هذا الدستور كتب بحسن نية، وأن الدول لا تبنى بحسن النوايا (13 أيلول/ سبتمبر 2015). وكانت هذه الجملة هي صافرة البداية للتخلص من هذا الدستور الذي لم يجف مداده، ولم يتم تطبيقه، ولم يتم سن العديد من القوانين المكملة له.
هم يستخددمون الأدوات التشريعية والقضائية مثل البرلمان والمحكمة الدستورية (كما تستخدم الشوك والسكاكين) لقضم النصوص غير المرغوبة في الدساتير
الدساتير عند السيسي وغيره من الطغاة هي بمثابة قطع عجوة؛ يلتهمها كليا أو جزئيا إذا شعر بالجوع، كما كان يفعل أهل الجاهلية مع أصنامهم العجوة، وهم يستخدمون الأدوات التشريعية والقضائية مثل البرلمان والمحكمة الدستورية (كما تستخدم الشوك والسكاكين) لقضم النصوص غير المرغوبة في الدساتير.
لم يضبط السيسي متلبسا باحترام الدستور في أي لحظة، فقد وصل إلى مكانه عقب انقلابه العسكري، وحنثه بيمينه على الدستور الأفضل في تاريخ
مصر، والذي أنتجته ثورة 25 يناير، ومنح المصريين من الحريات ما لم يروه من قبل.. كما أن السيسي انقلب مجددا على خارطة الانقلاب التي أعلنها يوم 3 تموز/ يوليو 2013، والتي كانت تمثل دستورا مؤقتا له، إذ كانت تلك الخارطة تتضمن إجراء انتخابات برلمانية تعقبها انتخابات رئاسية، ولكن السيسي غيّر هذا الترتيب لاحقا ليبدأ بالانتخابات الرئاسية لشهوته للحكم، كما أن تلك الخارطة تضمنت تحقيق مصالحة وطنية وصياغة ميثاق شرف إعلامي وهو ما لم يتم، وها هو السيسي يتحرك صوب انقلابه الثالث؛ ليطيح مجددا بدستور آخر أقسم على احترامه.
الرغبة في تغيير النص الخاص بتحديد مدة الرئاسة هو المحرك الأبرز للسيسي ليواصل اغتصابه للسلطة مستترا بورقة الدستور، لكن
التعديلات حين يفتح بابها لن تقتصر على هذا النص، بل ستتجاوزه إلى عشرات النصوص الأخرى التي تمثل ما تبقى من رائحة ثورة يناير، والأرجح أنه قد يوعز لرجاله بالمطالبة بنسف الدستور كله وإعداد دستور جديد؛ لأن البعض شرع في وجهه نص المادة 226 من الدستور التي تمنع إجراء تعديلات في المواد الخاصة بالانتخابات الرئاسية أو المواد المتعلقة بالحريات العامة، إلا بما يضيف تحسينات جديدة، ويطالب هذا البعض بضرورة الاستفتاء على إلغاء هذه المادة أولا، ثم الدعوة لاستفتاء آخر لتعديل باقي النصوص المطلوب تغييرها، وهو ما قد يهرب منه السيسي بالدعوة لكتابة دستور جديد تمحى منه روائح يناير تماما، وتعود بموجبه مصر إلى نسخة أردأ من الدساتير العسكرية السابقة.
الرغبة في تغيير النص الخاص بتحديد مدة الرئاسة هو المحرك الأبرز للسيسي ليواصل اغتصابه للسلطة مستترا بورقة الدستور، لكن التعديلات حين يفتح بابها لن تقتصر على هذا النص
دعوة السيسي لتعديل الدستور والتي انطلقت منذ أيلول/ سبتمبر 2015، والتي تعثرت حينا وتصاعدت حينا، شجعت أنظمة عسكرية عربية أخرى، مثل موريتانيا والسودان، على السير في الطريق ذاته، حيث تصاعدت الدعوات لتعديل الدستور في كلتا الدولتين لفتح المدد أمام رئيس الدولة، لكن
الرئيس الموريتاني الجنرال محمد ولد عبد العزيز، الذي وصل إلى الحكم عبر انقلاب عسكري في 2008 ثم انتخب رئيسا في 2009 (تماما مثل السيسي)، أعلن قبل ثلاثة أيام رفضه لتعديل الدستور، بما يسمح له بولاية جديدة، كما أن
الرئيس السوداني عمر البشير الذي وصل إلى السلطة عبر انقلاب عسكري في حزيران/ يونيو 1989 وظل في السلطة عبر الأعوام الثلاثين الماضية؛ يجد صعوبة حاليا في مسعاه لتمديد فترة حكمة عبر تغييرات دستورية جديدة بسبب تصاعد المظاهرات ضده. وهذا التراجع الموريتاني والتعثر السوداني سينعكس حتما على حملة السيسي الذي سبق له التعهد في حوار تلفزيوني من قبل باحترام الدستور وعدم السعي لتغييره. وقال في حوار له مع مع شبكة "CNBC" الأمريكية يوم 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 أنه مع الالتزام بفترتين رئاسيتين مدة الواحدة منهما أربعة أعوام، ومع عدم تغيير هذا النظام، مضيفا: "أنا لست مع إجراء أى تعديل فى الدستور خلال هذه الفترة.. وسوف أحترم نص الدستور الذي يسمح للرؤساء بشغل مناصبهم لفترتين متتاليتين فقط، مدة الواحدة أربع سنوات".
تعهدات السيسي ليست أول تعهدات من نوعها، فقد قطع عهودا أخرى و"لحسها"، ولن يكون مستغربا منه أن "يلحس" وعده بعدم المساس بالدستور، ولكن هذا سيمثل
زيتا جديدة لنيران الغضب ضده، وسيمثل فرصة جديدة لمعارضيه ومناهضيه للتوحد في مواجهته وإنقاذ مصر من براثنه.