تعرف الساحة السياسية في المغرب في الآونة الأخيرة سجالا سياسيا حادا ليس فقط، بسبب عدد من الأخبار التي نشرتها وسائل الإعلام عن سلوكات خاصة بقيادات من حزب العدالة والتنمكية الحاكم، وإنما أيضا بما أسماه وزير الدولة المغربي السابق محمد اليازغي بـ"التنابز بالألقاب" بين مكونات الأغلبية الحكومية، في إشارة إلى النقاش الذي نشب مؤخرا بين أمين عام تجمع الأحرار عزيز أخنوش ووزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان القيادي في العدالة والتنمية مصطفى الرميد.
ولم يستغرب محمد الشرقاوي وهو باحث أول بمركز الجزيرة للدراسات و أستاذ تسوية النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسن بواشنطن وعضو لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة سابقًا، في حوار خاص مع "عربي21"، أن تعمل الحكومة المغربية الحالية بستّة رؤوس ذات أنفة عالية متباعدة خاصة بين زعماء حزب التجمع الوطني للأحرار والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والتقدم والاشتراكية، فيما يقوم رئيس الحكومة سعد الدين العثماني بدور الوسيط من أجل التوصّل إلى التّفاهمات المستعصية والترضيات الممكنة بين من يعتبرون أنفسهم أكثر قوة وأقرب مسافة من مستشاري الملك.
وهذا نص الحوار:
س ـ قراءتك للسجال بين أحزاب الأغلبية الحاكمة في المغرب.. هل يعني أنهم حكومة واحدة أم حكومات متضاربة؟
ـ لم يشهد تاريخ المغرب الحديث حكومة ائتلافية ذات ولاءات متباينة (وأحيانا متناقضة) ومنشطرة على ذاتها بفعل تعارض الحسابات الداخلية مثلما هو حال حكومة العثماني التي دخلت مرحلة العبثية السياسية قبل مرور عامين على تشكليها. كان المنطق السياسي يفترض وجود توافق الاستراتيجيات وتكتل القيادات بين ستة أحزاب يسارية ووسطية ويمينية تجمعها العزيمة على تولي المسؤولية الحكومية وتحقيق الإصلاحات والتنمية المنشودة.
إقرأ أيضا: توسع الخلاف الحكومي بالمغرب.. وزير الدولة يرد على "أخنوش"
لكنّ واقع الحال ينبئ كيف أصبحت كواليس العمل الحكومي بمثابة جحر ثعابين تلسع بعضها بعضا، وكأنّها تحمل في جيناتها ميولا نحو التدمير الذاتي، أو بلغة الطب "الالتهام الذاتي" (autophagy) وفقا لأبحاث العالم الياباني يوشينوري أوسومي الذي فاز بجائزة نوبل للطب عام 2016. وتزداد معضلة التنافر أيضا نحو الأسفل بين كتاب الدولة والكتاب العامين ومديري الدواوين وبقية الموظفين في الوزارة الواحدة.
لا غرابة أن تعمل الحكومة الحالية بستّة رؤوس ذات أنفة عالية متباعدة خاصة بين زعماء حزب التجمع الوطني للأحرار والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والتقدم والاشتراكية، فيما يقوم رئيس الحكومة سعد الدين العثماني بدور الوسيط من أجل التوصّل إلى التّفاهمات المستعصية والترضيات الممكنة بين من يعتبرون أنفسهم أكثر قوة وأقرب مسافة من مستشاري الملك. وينبغي استحضار ثنائية السياق والمآل في تحديد ثلاثة أسباب رئيسية للمعارك الداخلية في الحكومة: أوّلها، أن العثماني لم يكن مخيّرا في انتقاء حلفائه السياسيين عندما كلّفه الملك محمد السادس بتشكيلها في 17 مارس 2017 بقدر ما تحتّم عليه إبداء الابتسامة في وجه عزيز أخنوش وإدريس لشكر. فما بُني على تنافر سياسي في الأصل لن يمهد إلى تماسك اللحمة أو التضامن في الخندق السياسي ذاته في وجه أحزاب المعارضة غير القوية سواء في البرلمان أو في المجال العام المغربي.
إقرأ أيضا: وزير مغربي سابق: تنابز الأغلبية بالألقاب مضر بالديمقراطية
ثانيا، تعتد قيادات أحزاب الائتلاف الحكومي بما تعتبره "قوّتها المركزية" في الحكومة من خلال مثلث يجمع في أضلاعه بين 1) مكانة الحزب في الخارطة السياسية، و2) مدى الرضا عنه أو تأييده من قبل القصر، 3) وعضويته في حكومة العثماني. ولم يتمكّن العثماني من تحويل هذه المثلثات إلى دائرة موحدة للعمل الحكومي على غرار الحكومات الائتلافية الطبيعية في العالم. ثالثا، عقد قران المصالح الحزبية في حكومة العثماني بمشورة بعض مستشاري الملك ينمّ عن الحاجة لفترة استراحة وجمع الأنفاس بعد أن خسر حصان الأصالة والمعاصرة الذي راهن عليه القصر والمخزن وبعض التيارات الحداثية في سباق الانتخابات في أكتوبر عام 2016، وبالتالي استبدال الاستثمار في الأسهم السياسية من إلياس العماري على رأس الأصالة والمعاصرة إلى عزيز أخنوش ومن خلفه موالو التجمع الوطني للأحرار، وهذه استراتيجية الدولة من أجل تجاوز حقبة العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة عام 2021. وقد ألمح أخنوش إلى توجهات المؤسسة السياسية في المغرب عندما قال "إذا سار حزب الأحرار على نفس منوال ديناميته السياسية الجديدة، فإنه سيتصدر الانتخابات المقبلة ويترأس الحكومة العتيدة بدلاً من العدالة والتنمية." ولا يخفي شعار "أغراس" الذي نادى به أخنوش، ومعناه في اللغة الأمازيغية "الطريق القويم"، الخط الرسمي الذي تبتغيه المؤسسة السياسية في المغرب.
س ـ هل ترى في استهداف قيادات العدالة والتنمية والتركيز على سلوكهم الشخصي، أمرا عاديا ينسجم والانتقال الديمقراطي؟ أم أنه عمل مقصود؟
من سوء حظ العمل السياسي في المغرب أنه لم يرق بعد إلى مستوى السجال النقدي المسؤول والتنافس الموضوعي بين البرامج والخطط الحزبية، بل يكرّس منطق الانتقام وعصبية العداوات الشخصية بين الموالين للدولة والخارجين عن رضاها. فما تبقّى من حرب الكواليس في حكومة العثماني ينقلب إلى معارك في وسائل الإعلام ومحاكمات لسلوك بعض أعضاء هذا الحزب أو ذلك باسم الأخلاق والمبادئ وكأن المغرب أسّس المدينة الفاضلة التي تصوّرها أفلاطون، أو أنه تفوق على البوريتانية الأمريكية Puritanism (التطهيرية) كفلسفة تدعو للصفاء الأخلاقي والسياسي.
فبدل أن تتفاعل الدولة والأحزاب وسائر المؤسسات السياسية بقاعدة الاعتداد بألمعية البرامج بين الأحزاب والتنافس على تأييد الرأي العام كما هو حال الديمقراطيات الغربية، تنطوي المعارك السياسية الراهنة في المغرب على نزعة ميكيافيلية تكرّس مقولة "الغاية تبرر الوسيلة". وإذا كانت مصلحة الدولة العميقة ترجيح كفة الموالين على حساب المنتقدين أو المنادين بملكية دستورية، أو تخفيف قبضة المخزن، أو إلغاء نظام الريع، أو إعادة توزيع الثروة، ينحدر المستوى إلى الاغتيال السياسي غير الجسدي أو اغتيال السمعةcharacter assassination. ليست هذه الشخصانية جديدة في تعامل المخزن عبر تاريخه مع إصلاحي المغرب، إذ يبدو أن هناك عرفا يمكن تسميته بالاحتفاظ ببعض الملفات على الرفّ وتحريكها حسب الحاجة. ولا تخرج عودة التهم المستدامة ضد عبد العالي حامي الدين في قتل الطالب بنعيسى آيت الجيد عام 1993 بعد نظر القضاء فيها عن هذه القاعدة. وفضلا عن هذه العدائية الشخصانية حسب الطلب، يستهدف اغتيال السمعة لبعض حزب العدالة والتنمية تعميق الشرخ بين أعضائه المصطفين خلف بن كيران أو خلف قيادة العثماني.
إقرأ أيضا: المغرب .. بنكيران يتهم "مندسين" بقيادة حملة ظالمة ضده
يبدو أن الدولة العميقة قد حسمت موقفها في تجاوز مرحلة بن كيران بشكل نهائي. وينطوي حصوله على هبة ملكية في شكل راتب تقاعد عن سنوات الخدمة على رأس الحكومة وقيادة الحزب على أكثر من دلالة. فقد يكون مكسبا ماديا يعفيه عن شظف العيش أو مدّ يد الحاجة، أو يعيد إليه بعض الاعتبار بعض قرار استبعاده من تولي رئاسة حكومة ثانية بعد انتخابات 2016. لكنّ ظروف تسليم الهبة الملكية إلى بنكيران تنمّ عن دلالة مزدوجة: أولها، تأكيد دور مستشار الملك فؤاد علي الهمة الذي زار بيت بنكيران في المرحلة الراهنة بعد سنوات الصراع الشخصي بين الرجلين خاصة خلال ستة أشهر من الفراغ الحكومة (نوفمبر 2016-أبريل 2017) وتمسك الهمة بدور أخنوش ولشكر في الحكومة الجديدة. ثانيا، المغزى من حصول بنكيران على راتب التقاعد ليس تقاعدا وظيفيا فحسب، بل هو أيضا إشارة إلى تقاعد سياسي حتى لا يملّي النفس بأمل تولي منصب رفيع في المستقبل. وقد يكون لراتب 9000 دولار حلاوة تحفيزية للقبول بأمر مقضي.
س ـ لمصلحة من تقزيم الأحزاب الكبرى وتفتيتها في المغرب؟
يعمل المغرب المعاصر بقاعدة إعادة هندسة الخارطة الحزبية منذ منتصف السبعينيات، عندما ابتكر ما أصبح ما يعرف في الأدبيات السياسية بالأحزاب الإدارية كناية عن أحزاب موالية للدولة المركزية. ففي 1977، ظهر التجمع الوطني للأحرار في محاولة للنيل من شعبية اليسار خاصة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وفي 2008، ظهرت حركة كل الديمقراطيين بإيعاز من فؤاد علي الهمة لتمهد الطريق لتشكيل حزب الاصالة والمعاصرة الذي ضم بعض اليساريين وأعضاء خمسة أحزاب صغيرة حلت نفسها وهي الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب العهد، وحزب البيئة والتنمية، ورابطة الحريات، وحزب مبادرة المواطنة والتنمية. وبعد فشل هذا الحزب في إلحاق الهزيمة بالعدالة والتنمية، أصبح القصر ميالا إلى إعادة تأهيل حزب الأحرار الذي يبدو أكثر حضورا في دواليب الدولة، ولديه كفاءات تكنوقراطية أكثر تناغما من الأصالة والمعاصرة.
لكن التحدي الآن أمام الدولة: هل يمكن أن يؤدي تقليص الدور السياسي لبنكيران وأنصاره في العدالة والتنمية إلى إعادة هندسة شعبيتهم بين الرأي العام المغربي، وهل من السهل أن تتقاطع المناورات السياسية والمجتمعية في مرحلة الفجوة المتنامية بين الدولة والمجتمع!