أصاب السيسي الملل، من فكرة شراء الولاء، ولو بثمن بخس، فقد دخل مرحلة جديدة هي الولاء قسراً، فلم تعد لأي قوة في المجتمع حق الاختيار، بين أن تكون معه أو تكون ضده!
في الأسبوع الماضي، حدث ما يؤكد أنه دخل في طور جديد، وكانت الضربة الموجعة من نصيب فئتين طالما عمل من أجل احتوائها بدرجة أو بأخرى، كانت الأولى هي القضاة، وهم من مثلوا ضلعا في مثلث حزبه، بجانب ضلعيه الآخرين: الجيش والشرطة. أما الضربة الثانية فكانت من نصيب الصحفيين، وهو ما يجعل من شعار المرحلة الجديدة هو أن التأييد لن يكون أبداً مدفوع الثمن!
انسحاب النقيب
لقد فوجئت الجماعة الصحفية، بقرار انسحاب النقيب الحالي "عبد المحسن سلامة" من الانتخابات التي ستبدأ إجراءاتها بعد يومين، وهو الانسحاب الثاني المهم بعد انسحاب النقيب السابق يحيي قلاش من الترشح. ولم يكن أحد يساوره شك في أن الضغوط كانت سبباً في ذلك في الحالة الثانية، أما في الحالة الأولى، فإن الرجل الذي يرأس موقع رئيس مجلس إدارة جريدة الأهرام لن يواجه بضغوط، ولكن يكفي أن يُطلب منه الانسحاب، فينسحب، فهو لا يعتبر نفسه مستقلاً عن السلطة، بل أحد أذرعها، ولهذا تم اختياره لنفس الموقع الذي شغله "محمد حسنين هيكل" و"إبراهيم نافع"، وغيرهما من الصحفيين المقربين لأهل الحكم، كل في زمانه!
بيان الانسحاب لعبد المحسن سلامة، يصلح منشور دعاية، فهو يقدم كشف حسابه في الدورة الحالية، والمشروعات التي لا تزال قيد التنفيذ، والأجدر أن يترشح لدورة جديدة، فلا يجوز له أن يغادر ويترك أمعاء النقابة خارجها، وهو ما قيل لتبرير ضرورة استمرار السيسي في الحكم، إذ لا يجوز له أن يترك السلطة بينما أمعاء البلد خارجه!
قبل فتح باب الترشيح لانتخابات النقيب والتجديد النصفي لعضوية المجلس، انسحب سلامة فجأة وبدا واضحاً أن مرشح السلطة الأوحد هو ضياء رشوان، ويبدو أن السيسي طمع في موقعه رئيساً لهيئة الاستعلامات (الإعلام الخارجي) لصالح أحد العسكريين
من المفارقات الغريبة هنا، أن المبرر لتعديل
الدستور، وهو أن أربع سنوات لا تكفي وأن قصرها على دورتين ليس كافياً، سبق أن رفعه عبد المحسن سلامة، الذي بدأ التخطيط سراً لتعديل قانون النقابة بما يسمح له بمد دورة النقيب لأربع سنوات، على أن تكون بدون حد أقصى. ومن الواضح أن جهات في السلطة كانت موافقة على هذا، لكن من الواضح أيضا أنه لم يحدث توافق على التعديل بين باقي الجهات، والحال كذلك فقد كان واضحاً وجود حماس في السلطة لاستمرار عبد المحسن سلامة نقيباً، لكن هذا الاتجاه تغير، فقبل فتح باب الترشيح لانتخابات النقيب والتجديد النصفي لعضوية المجلس، انسحب سلامة فجأة وبدا واضحاً أن مرشح السلطة الأوحد هو ضياء رشوان، ويبدو أن السيسي طمع في موقعه رئيساً لهيئة الاستعلامات (الإعلام الخارجي) لصالح أحد العسكريين.
أزمة مارس
وإذا انسحب أقوى المرشحين المنافسين له (النقيب الحالي والنقيب السابق)، فالمعنى أننا أمام حالة أقرب إلى الـ"لا
انتخابات"، فأهل الحكم ليسوا بحاجة لتقديم الامتيازات للصحفيين، مقابل أن ينجح مرشحهم، وهو أمر
غير مسبوق في تاريخ هذه النقابة العريقة، وربما لم يسبقه لذلك سوى تعيين الضابط ووزير الإرشاد القومي صلاح سالم نقيباً للصحفيين، بعد أزمة آذار/ مارس 1954، وانحياز النقابة للديمقراطية، وقد هُزم ممثلها في مجلس قيادة الثورة الرئيس محمد نجيب، وانتصرت جماعة الحكم العسكري ويمثلها جمال عبد الناصر وفرقته!
لكن كانت مرحلة صلاح سالم مؤقتة، ولم تكن السلطة على مدى السنوات السابقة تمنع أحداً من الترشح أو تمارس ضغوطاً بهذا الشكل، بل إن مما ذكره "فتحي غانم" في مذكراته، أن جمال عبد الناصر طلب منه أن يكون مرشحه على موقع النقيب، ليفاجأ أنه طلب من آخر الترشح لذات الموقع، وهو ما أزعجه للغاية، وبدا أن هذا ذبحه من الوريد إلى الوريد، فعاد وزاد في هذا الموقف. وبعد هذا رشح السادات موسى صبري وسقط، ولم تهتد السلطة إلى ما يفعله الآن الحاكم العسكري من حمل المرشحين على عدم الترشح، فكانت الحكومة دائماً تقف وراء مرشح بعينه، تمنحه بعض الامتيازات، لكنها تحرص على أن تقول إن هذه الامتيازات للصحفيين وليس لمرشح معين، لعدم استفزاز الجماعة الصحفية، وفي المرة التي لم ينجح فيها مرشحها، فقد أوفت بهذه الوعود باعتبارها مقدمة للصحفيين وليست لمرشح بعينه!
يبدو أن الحاكم العسكري، لم يعد راغباً في تقديم هذا الفتات المسمى "امتيازات"، وإذا كانت الأنظمة تفعل هذا لنجاح مرشحها، ولضمان ولاء النقابة لها، فإن السيسي بسياسة "لا انتخابات"، أو الانتخابات الصورية، سيتمكن مما يريد بنجاح مرشحه، بدون أي مخاطرة
وكانت الانتخابات فرصة لحصول الصحفيين على بعض الامتيازات، ولهذا فعندما عرض أحد المسؤولين (صفوت الشريف إن لم تخن الذاكرة) على أحد النقباء (جلال عارف على ما أعتقد) تعديل قانون النقابة لمد دورة النقيب إلى أربع سنوات بدلاً من سنتين، قال له إن نقابتنا فقيرة، والانتخابات فرصة للحصول امتيازات وتمويل بعض الصناديق، ومنها صندوق المعاشات، واعتذر عن مد الدورة!
جنون العسكر
ويبدو أن الحاكم العسكري، لم يعد راغباً في تقديم هذا الفتات المسمى "امتيازات"، وإذا كانت الأنظمة تفعل هذا لنجاح مرشحها، ولضمان ولاء النقابة لها، فإن السيسي بسياسة "لا انتخابات"، أو الانتخابات الصورية، سيتمكن مما يريد بنجاح مرشحه، بدون أي مخاطرة، كتلك التي حدثت مع السادات بسقوط موسى صبري، أو مع مبارك بسقوط صلاح منتصر، أو مع السيسي نفسه بسقوط ضياء رشوان في انتخابات سابقة فاز فيها يحيي قلاش، وهو فوز أقلق دوائر الحكم، ليس لأن قلاش محسوباً على المعارضة، ولكن لأنه محسوب أكثر على المهنة والنقابة، وهو ينتمي سياسيا لنفس تيار رشوان (التيار الناصري)، كما أنه من مؤيدي 30 يونيو، لكن رشوان محسوب على العسكر. وكان الأسرع لفهم هذه الرسالة المبكرة ضد النظام القائم هو الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، وقد مثلت مفاجأة له لأنه فهم دلالتها، فذهب يسأل: ماذا هناك؟!
مرحلة جديدة للحكم العسكري، غير مسبوقة، جرى تدشينها بنفض الحاكم يده من أحد أضلع حكمه، فأوقف في التعديلات الدستورية الاستقلال النسبي الممنوح للسلطة القضائية، مع أنها لم تقصّر في الانحياز له
وهي مرحلة جديدة للحكم العسكري، غير مسبوقة، جرى تدشينها بنفض الحاكم يده من أحد أضلع حكمه، فأوقف في
التعديلات الدستورية الاستقلال النسبي الممنوح للسلطة القضائية، مع أنها لم تقصّر في الانحياز له. وإذا كان القضاة هم الضلع الأول في الحصول على الامتيازات المالية (أكثر من الجيش ومن الشرطة بطبيعة الحال)، ففي خطاب لوزير المالية، أكد
وقف تجاوز الميزانية المخصصة للقضاة، وصار عليهم إعادة آخر مكافأة حصلوا عليها وتقدر بأربعة آلاف جنيه.
في المرحلة القادمة لن تكون هناك فئة بعيدة عن "جنون العسكر"!