عندما أقصي المنتخب الفرنسي من المشاركة في كأس العالم بالولايات المتحدة سنة 1994 أمام بلغاريا، عزم الفرنسيون على العودة بسرعة إلى المنافسة العالمية، وتوجوا بكأس العالم في نسخة 1998، بجيل من اللاعبين يتقدمهم زين الدين زيدان، الجميع تأكد يومها أن الفوز بمنافسة مثل كأس العالم لن يأتي صدفة، بل وراءه ميزة لم تتفطن إليها كل المنتخبات العالمية، وهي مدارس التكوين في كل فريق فرنسي، ما جعلهم يجلبون أحسن اللاعبين الشبان وتكوينهم، وأصبحوا نموذجا عملت أغلب المنتخبات العالمية على الاقتداء به، ولا سبيل لتحقيق نتائج إيجابية دون الرجوع إلى التكوين.
أظن أن المنتخب القطري سار على نفس منهاج الكرة الفرنسية التي تسيدت الكرة العالمية مرتين خلال العشرين سنة الأخيرة. فقبل بداية كأس أمم آسيا لكرة القدم، لم أضع في ذهني أبدا أن المنتخب القطري سيتوج باللقب أمام عمالقة الكرة الأسيوية، خصوصا أن المنافسة تلعب في الإمارات التي هي في خلاف مع الشقيقة قطر، وأمور أخرى “غير رياضية” لا أريد الحديث عنها، لكن مع مرور اللقاءات تيقنت من أن فوز قطر بهذه الكأس لم يكن أبدا وليد الصدفة، بل وليد عمل قاعدي دام سنوات، كان وراءه مهندسون عرفوا كيف يخططون ليصبحوا أسياد القارة الآسيوية، فلا أحد يستطيع أن يتهم المنتخب القطري بأي اتهامات سوى كونه منتخبا قويا، أعطى درسا لكل المنتخبات الآسيوية، بلاعبين أصبحوا في ظرف قصير محل أطماع أحسن الأندية العالمية، وخلاصة إنتاج عمل وتخطيط ورؤية مستقبلية لدى صانعي القرار، التي تُولي اهتماما خاصا وكبيرا بالرياضة في مختلف الألعاب، وخاصة كرة القدم.
أظن أن سر وصول قطر إلى هذه المكانة المرموقة، هو أكاديمية أسباير التي تأسست عام 2004 بهدف استكشاف وجذب ورعاية المواهب الرياضية، وهدفها هو رفع مستوى الأداء الرياضي عن طريق التدريب عالي المستوى، وتدريس علوم الرياضة، كما أنها توفر برامج ومنشآت رياضية ذات شهرة عالمية، وتؤدي دورا رائدا من خلال دعم متطلبات كأس العالم 2022 بتطوير اللاعبين، وإرساء مكانة الأكاديمية في المجتمع القطري، باعتبارها الوجهة التي تقصدها المواهب الرياضية، فعندما نعرف أن من بين اللاعبين المتوجين بكأس آسيا أربعة لاعبين من خريجي هذه المدرسة التكوينية؛ وهم الحارس سعد الشيب صاحب جائزة أفضل حارس مرمى في البطولة الآسيوية، أكرم عفيف ليس أقلّ شأنا من أي لاعب قطري آخر، ساهم بنسبة كبيرة في رحلة تتويج منتخب “العنابي”. وأكرم عفيف الذي صنع عشرة أهداف، وسجل آخر في سبع مباريات من البطولة الآسيوية، وهو رقم قياسي لم يسبق أن حققه أي لاعب في النسخ السابقة، والمهاجم المُعز علي الذي تألق وحصد لقب أفضل لاعب والهداف الأول برصيد تسعة أهداف، كما كسر رقم علي دائي التاريخي (أكثر من سجل أهدافا في بطولة واحدة برصيد 8 أهداف).
أظن أن التتويح بكأس أمم آسيا هي رسالة مشفرة أرسلها القطريون إلى الجميع، مفادها أن النجاح لن يأتي إلا بالعمل، وتضافر جهود الجميع من أجل تحقيق هدف حتى وإن كان صعب المنال. الفوز بالتاج الآسيوي ما هو إلا تحفيز لاحتضان كأس عالمية في المستوى، خاصة أن الأشغال تسير بسرعة البرق، وما تصريح فاطمة سامورا الأمينة العامة للفيفا، بأن الشراكة الجديدة مع دولة قطر تهدف إلى تسهيل عمليات التنسيق لتنظيم المونديال، كما عبرت عن اندهاشها من السرعة غير المسبوقة في إنجاز مشاريع البنية التحتية للمونديال في قطر، رسالة تجعل كل المتربصين بالملف القطري ملزمين بإعادة النظر في حساباتهم الخاطئة.
عن صحيفة الشروق الجزائرية