السؤال أعلاه موجه إلى الولايات المتحدة، وحلفائها الأوروبيين، بإزاء إعلانهم سحب الثقة من الرئيس الفنزويلي نيكولاس
مادورو، وهو إعلان مثير للحيرة، فما نعرفه عن الديمقراطية التي ظل الأوربيون والأمريكان يزعمون أنهم سدنة معابدها، أن سحب الثقة من حكومة ما، شأن يخص برلمان تلك الحكومة الـ"ما"، وأنه لا يجوز بحسب القوانين والأعراف الدولية، مجرد الحديث عن سحب الاعتراف بحكومة ظلت قائمة، ومعترفا بها على مدى عقود.
أعتقد أن مادورو كان فاشلا في إدارة شؤون بلاده، وأنه ورث الفشل من سلفه هوغو شافيز، ذلك الرجل الغوغائي الذي بدد ثروات بلاده الهائلة، في كل ما يغيظ واشنطن، وانتهى به الأمر وهو يجعل شعب بلاده يتميّز من الغيظ.
وأدرك أن كلماتي هذه عن شافيز، ستغيظ الكثير من العرب الذين كانوا مفتونين بعنترياته اللفظية القادحة في واشنطن، تماما كهيامهم سنين عددا بخطرفات مدمِّر ليبيا، معمر القذافي، وهو يعتلي المنابر ليهتف "طز في أمريكا"، أو يرتدي القفازات خلال مؤتمرات القمة لمنع يده الطاهرة، من التلوث وهو يصافح الزعماء العرب.
خرجت مظاهرات عارمة في العاصمة الفنزويلية كراكاس رفضا لحكومة مادورو، وركب خوزيه غوايدو، رئيس المجلس التشريعي الفنزويلي الموجة، ونصَّب نفسه رئيسا انتقاليا للبلاد، بعد أن أدى القسم أمام "نفسه"، وهو أمر لا يختلف كثيرا عن عقد قران من طرف واحد، حيث يعلن الرجل في غياب مأذون، أو ما يعادله في الملل الأخرى، قبوله بأن يكون زوجا لامرأة "غائبة"، ثم يعلن نيابة عنها أنها تقبل به بعلا.
وسارعت واشنطن بالاعتراف بغوايدو رئيسا لفنزويلا، مع أن تنصيب حكومة جديدة في بلد مستقل، لا يحتاج لاعتراف من أحد سوى مواطني ذلك البلد، وبدوره سارع غوايدو بتقديم أوراق اعتماده لواشنطن، بأن أعلن أنه من الوارد أن يطلب تدخلا عسكريا أمريكيا في بلاده للقضاء على حكم مادورو وتكريس لولايته للأمر في بلاده، مع ما يعنيه ذلك من جر الفنزويليين إلى حرب أهلية طاحنة، ولهم في العراق أسوة سيئة.
تعيب واشنطن على مادورو أنه طاغية؛ فهل هو كذلك أكثر من بشار الأسد؟ قطعا لا؛ فبشار من صنف هتلر وموسوليني وفرانكو وستالين: أنا، ومن بعدي لتقم القيامة وتحشروا جميعا في الجحيم، وتعيب عليه أيضا أن بلاده ضالعة في تجارة المخدرات؛ فهل هي فعلا كذلك؟
أبدا وطبعا لا، لا. فـ80 في المئة من تجارة الكوكايين والهيرويين منشؤهما كولمبيا والمكسيك، وهما بلدان ليس فيهما نفط كما هو الحال في
فنزويلا والعراق.
عندما خرجت الآلاف المؤلفة في شوارع كراكاس، خلال الأيام القليلة الماضية، منادية برحيل الحكومة، لم يتعرض المتظاهرون لأي قدر من القمع: لا قنابل مسيلة للدموع ولا رصاص مطاطي أو حي، وعندما خرج بضعة آلاف في المدن السودانية مطالبين برحيل حكومة جعلت البلاد تتصدر قائمة الدول الفاشلة، حصد الرصاص أرواح العشرات (53 حتى يوم الجمعة 7 شباط/ فبراير الجاري، مات ثلاثة منهم وهم رهن الاعتقال، وللقارئ أن يستنتج "كيف؟").
ولكن لم تصدر عن أي مسؤول حكومي أمريكي، ولو كلمة رثاء واحدة في حق من قتلوا، أو كلمة إدانة واحدة بحق القتلة في السودان. لماذا؟ لأن السودان ليس فنزويلا أو العراق، وليس ثمة مكسب مادي من التدخل الناعم أو الفظ في شؤونه.
والشاهد: ما ولغت الولايات المتحدة في شؤون بلد ما بأموالها وبجيوشها، إلا لمكسب كبير لخزائنها، أو لاكتساب موطئ قدم لعساكرها، أي لخدمة أغراض الهيمنة الأمريكية على مفاصل الكرة الأرضية، ويفسر هذا لماذا اليمين الأمريكي المحافظ مهووس بأمر
إيران منذ ثورة 1979، التي أطاحت بصنيعتها الشاه محمد رضا بهلوي، فالأمر يتعلق بثروات إيران
النفطية، وبكون إيران لاعب خط الوسط بين الشرقين الأدنى والأقصى.
ولهذا السبب أطاحت الحكومات الغربية، في عام 1953، بمحمد مصدق، الذي صار رئيسا للوزراء في إيران بموجب انتخابات حرة ونزيهة، ثم ارتكب جريرة تأميم النفط.
أعلن قائد القيادة الأمريكية الجنوبية الخميس الماضي، أن جيش بلاده على استعداد- إذا دعا الأمر- للتدخل في فنزويلا للإطاحة بحكومة مادورو، وطالما أن هبنقة (ترامب) رئيس للولايات المتحدة، فـ"الأمر" الذي يستوجب مثل ذلك التدخل جاهز، وعندها أبشر بطول سلامة يا مادورو، لأن الشعوب تقف خلف حكومات الأمر الواقع، على علاتها، في مواجهة أي تدخل خارجي.