انقلاب السيسي ورحلة الدماء
لم يكن انقلاب السيسي على الرئيس المنتخب محمد مرسي؛ انقلابا عسكريا هادئا، بل كان انقلابا معمدا بالدماء وبطريقة صادمة وبغايات مدروس. فـ"غرفة الانقلاب" تدرك أن الشعب المصري الذي تذوق لذة الحرية في ثورة 25 يناير (2011) لن يكون من السهل إعادته إلى دائرة الخوف والخضوع، لذلك كان المخطط أن يقع صَدْمُ الشعب بأقصى درجات البطش وأوسع بِرْكة دماء، فكان الهجوم بالقوة الباطشة على المعتصمين العُزل في رابعة العدوية والنهضة، وقتل مئات الرجال والنساء والأطفال، إضافة إلى آلاف الجرحى، وكان استهداف أسماء البلتاجي، ابنة محمد البلتاجي أحد قياديي الإخوان، يوم 14 آب/ أغسطس 2013، في عملية ممنهجة تهدف إلى كسر إرادة زعماء الإخوان باستهداف فلذات أكبادهم.
وقد تسارعت المحاكمات لمئات من قادة الإخوان، وكانت الأحكام صادمة بين إعدام ومؤبد. وكانت تلك الأحكام القاسية جزءا من "الصدمة" لشل إرادة الحركة ودفعها إلى الاستسلام، وقطع أي أمل لديها في مواصلة الدفاع عن الشرعية وعن أشواق الثورة التي قدم فيها المصريون أكثر من 800 شهيد.
الأنظمة الفاقدة للشرعية الثورية أو الشرعية الانتخابية تبحث لنفسها دائما عن شرعية، فتفتعل معارك وتصطنع أخطارا وتعلن حروبا على مقاسها، وتعد لها أسباب "النصر" كي تحقق "بطولات"، تُسخّر لها وسائل إعلام تشيد بها وتُحوّلها إلى "تاريخ" جديد أو إلى ما يُشبه العقيدة، فلا يجوز التشكيك فيها ولا يُقبل التردد في الانضمام إليها ضد أعداء هم من صناعة فلسفة الانقلابات والأنظمة غير الشرعية.
شهدت مصر موجة من العمليات العنيفة ضد عناصر من الأمن ومن الجيش؛ نُسبت لإرهابيين واستدعت مهاجمةَ بيوت وقتلَ من فيها، كما استدعت إيقافات لأعداد كبيرة من الشباب المتدين تحت شبهة "الإرهاب" والتآمر على الأمن العام والانتماء لجماعات إرهابية.
في ظل تداخل السلطات لا شيء يضمن الحقيقة، وفي ظل حكم العسكر لا جرأة على النقد ولا قدرة على التشكيك في المعطيات الرسمية وروايات المُقتدرين
عملية
اغتيال النائب العام الإجرامية يوم 29 حزيران/ يونيو 2015 كانت جريمة حقيقية بشعة، لا يبررها عقل ولا شرع، وتم بموجبها إحالة عشرات الشبان على القضاء.
في ظل تداخل السلطات لا شيء يضمن الحقيقة، وفي ظل حكم العسكر لا جرأة على النقد ولا قدرة على التشكيك في المعطيات الرسمية وروايات المُقتدرين.
أحد الشبان المحكومين بالإعدام كان مؤثرا جدا
وهو يُخاطب القاضي؛ يقول له: أنا خصمك يوم القيامة، وأنت تعرف أنني أنا وأصدقائي مظلومون، وأن الاعترافات انتزعت منا تحت التعذيب.. لم يكن ثمة من يسمع ضميره أو يتذكر ربه، إنما كانت سلطة العسكر أشد وطأة على الضمائر والقلوب، بل ولم تشفع شهادة ابنة النائب العام المغدور؛ وهي تدعو إلى تتبع المجرمين الحقيقيين وعدم إعدام أولئك الشبان الذين تقول أنهم أبرياء.
والد أحد الشبان المعدومين قال إن ابنه كان في الخدمة العسكرية عندما حصلت عملية قل النائب العام.
إعدام تسعة من الشباب دفعة واحدة كانت عملية صَدْمٍ أخرى للشعب المصري؛ لمنعه من استعادة أمله في استئناف مساره الثوري أو استعادة "شرعية" مُنقَلب عليها.. إعدام تسعة من الشباب هو محاولة لإعدام العنفوان الثوري والاندفاع الإصلاحي والتمرّد المُواطني، خاصة أن الطقس العربي يتجه نحو دفءٍ تطبيعي مع الكيان الغاصب لفلسطين ولأراض عربية في الجنوب اللبناني وهضبة الجولان السوري. جاء الإعدام مباشرة بعد قمة وارسو التي تمهد للتطبيع العربي العلني الجماعي ولتمرير "صفقة القرن"، وهذا يتطلب تبريدا للعواطف العربية المستنفرة ضد هذه المؤامرة، ويحتاج دماء ساخنة تكون زيوتا لمحركات جرافات "التطبيع" و"التسويات" المائلة ، وليس أصْدَم للروح الشبابية المتمردة إلا إعدام بعضٍ من طلائعه من خيرة شباب مصر الكنانة.
إعدام تسعة من الشباب هو محاولة لإعدام العنفوان الثوري والاندفاع الإصلاحي والتمرّد المُواطني، خاصة أن الطقس العربي يتجه نحو دفءٍ تطبيعي
الإعدامات والتزكيات
الفطرة السوية والقيم الإنسانية والشرائع والفلسفات كلها تُدين قتل النفس بالباطل أو بالشبهة، فحيث تكون شُبهة لا يكون حكمٌ، وإنما يُصرف الظن دائما لصالح المتهم، فكيف يُبارك أناسٌ من مثقفين وإعلاميين وعلماء دين إعدام شبان لم تتوفر لهم محاكمة عادلة، وكل حيثيات المحاكمة تسمح باستنتاج أن الشبان المعدومين لم تكن التهمة ثابتة عليهم، فكيف لا يتحرى من يُفترَض فيهم ضمائر وقيم في مثل تلك الأحكام؛ فلا يستسهلون مباركتها نكاية في خصم سياسي أو استرضاء لسلطة حاكمة؟
ولعل أسوأ شهادة ضد شباب مصر وضد جماعة الإخوان عموما هي شهادة "دار الإفتاء المصرية" التي قدمت كل الذرائع للحرب عليهم، حين اتهمتهم بأبشع التهم. فقد جاء في الصفحة الرسمية لهيئة الإفتاء مخاطبة حركة الإخوان المسلمون:
"ثمانون عاما أو يزيد لم تقدموا لأمتكم إلا الإرهاب والقتل وتزييف الحقائق، ومهما بلغتم من إجرام وإرهاب فلن يثنينا إرهابكم وبغيكم عن مقاومة شركم وجهاد عدوانكم، ومهما مارستم من دجل وكذب فلن نتوقف عن فضح كذبكم وتفنيد ضلالكم".
مؤسسة الإفتاء قدمت الغطاء الشرعي لقوات الأمن وللجيش وللقضاء في عمليات التصفية الجسدية لمنتسبي حركة الإخوان، حيث ورد في موقع الهيئة هذه الصياغة:
"ما تقوم به مؤسسات الدولة وجيشها وشرطتها من مقاومةٍ للجماعات الإرهابية يعدُّ من أعلى أنواع الجهاد".
مؤسسة الإفتاء قدمت الغطاء الشرعي لقوات الأمن وللجيش وللقضاء في عمليات التصفية الجسدية لمنتسبي حركة الإخوان
وليس باستطاعة أحد التأكد مما إذا كانت تلك الصياغات هي من صياغات هيئة الإفتاء أم إنها من إملاءات سلطة العسكر.
"صدور" مثل هذه المواقف عن هيئة رسمية للإفتاء يُعدّ بمثابة "تبرئة" للسلطة من كل ممارساتها الباطشة ضد مخالفيها، ويُعدّ أيضا اتهاما لخصوم النظام بكونهم "خوارجَ هذا العصر"، ويجوز في حقهم القتل والاستئصال.
هل كان بإمكان الدول الكبرى من أصدقاء النظام المصري التدخل لمنع تطبيق الأحكام ضد هؤلاء الشباب؟ هل كان بإمكان النظام المصري عدم الاستجابة لطلب أصدقائه الغربيين لو أنهم تدخلوا لمنع الإعدامات؟ كان باستطاعة الإدارة الأمريكية أن تتدخل وتضغط لمنع حصول المجزرة، وكان بإمكان دول أوروبية أن تتدخل، ولكن يبدو أن النظام المصري يجد دعما من أصدقائه هؤلاء كي يذهب بعيدا في كسر عظام جماعة الإخوان، ولن يتوقف إلا حين يُدعى إلى الكف عن ممارسة
القمع. ولكنه لن يُدعى إلى ذلك طالما أن جماعة الإخوان لا تقبل بأن تكون شريكا في "صفقة القرن"، ولا تقبل بالتجرد من مقوماتها الفكرية والعَقَدية المنتصرة لقضايا الأمة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
بيانات المنظمات الحقوقية المستنكرة للإعدامات هي بيانات بغير "أنياب"، ولا تتجاوز كونها مواقف أخلاقية لا تستند إلى وسائل ضغط، ولا ترقى إلى مستوى القرارات المُلزمة.