سرقت الجزائرُ الأضواءَ منذ ما يقرب من شهر، وهي التي ظلت متوجسةً من رياح ما سُمي "الربيع العربي"، مُتجنبةً ارتدادات الحراك الذي عمّ العديد من البلدان في محيطها الإقليمي.. حجة نخبتها الحاكِمة، وجزء قليل من مثقفيها، ووسائل الإعلام الرسمية، أن البلاد كانت سباقة لانطلاق الحراك في ربوعها منذ خريف 1988، وقد اكتوى المجتمع والدولة معاً بنيران سنوات "العشرية السوداء" (1990-1999)، ولم يخرجا من جحيمها إلا بعد أن قدّما كلفة بشرية ومادية باهظة.
بيد أن الجزائريين ظلوا، في المقابل، يشاهدون بلادهم، الغنية بالثروات والكفاءات، تتدحرج إلى الوراء سنة بعد سنة، وتُضيع فرص نمائها وتقدمها، ويضعف الولاء الوطني في نفوس أبنائها، وهي التي قدمت نموذجا راقيا في الدفاع عن هويتها الوطنية، وشخصيتها المستقلة، بعد أكثر من قرن وثلاثين سنة من الاستيطان الفرنسي (1830-1962)، بل تولد شعور جماعي لدى الجزائريين بأن نخبتهم الحاكمة ومن يتحلق حولها من رجال أعمال ومستحكمين في دوائر المال والأعمال، أعمت السلطة والثروة أبصارهم، ودخلوا مرحلة إذلال المجتمع برمته، فما كان إلا أن تولد الشعور إلى وعي وإصرار حقيقيين على إيقاف سيرورة التدحرج، وإعادة صياغة تعاقد اجتماعي وسياسي جديد، يكون للمواطنين الدور الفعلي في كتابة مضمونه.
شعور جماعي لدى الجزائريين بأن نخبتهم الحاكمة ومن يتحلق حولها من رجال أعمال ومستحكمين في دوائر المال والأعمال، أعمت السلطة والثروة أبصارهم، ودخلوا مرحلة إذلال المجتمع برمته
لا يختلف اثنان في أن المجتمع الجزائري بكامل مكوناته قدم فصولاً راقية من التظاهر السلمي، وعكس وعياً عميقا عن إدراكه الجماعي ما يُؤلم وطنَه، وما يجب أن يجترح من حلول لبث روح الشفاء في جسمه.
لذلك، اعترض الجزائريون بشكل قطعي على تجديد العهدة الخامسة لرئيسهم، وهم الذين تعودوا على إمساكه عن الكلام، منذ خطاب سطيف عام 2012، حين "زف إليهم بُشرى قرب خروج جيله من السياسة" بقوله: "جيلي جنان طاب"، تلك العبارة التي تعني معنى واحدا هو أن جيله دخل مرحلة التقاعد السياسي، وحان رحيله، فإذا به يترشح لعهدة رابعة، قبل أن يتطلع للظفر بخامسة، يُنتظر أن يفصل فيها المجلس الدستوري بعد غد الأربعاء (13 آذار/ مارس 2019).
يعرف الجزائريون أكثر من غيرهم أن نظامهم السياسي بالغ التعقيد والتشابك، ويدركون أن العلاقة بين النخب الحاكمة ومكونات المجتمع وتعبيراته تشكو من فجوة عميقة، ليس اليوم، بل منذ السنوات الأولى من الاستقلال، ويعُون أيضا أن محاولات إصلاح العقل السياسي في بلدهم راكمت الإخفاقات أكثر من النجاحات، وحتى الشخصيات الوطنية التي حملت مشاريع جدية للإصلاح؛ إما تمَّت تصفيتها، أو وقع إقصاؤها وركنُها في الزاوية.
يعرف الجزائريون أكثر من غيرهم أن نظامهم السياسي بالغ التعقيد والتشابك، ويدركون أن العلاقة بين النخب الحاكمة ومكونات المجتمع وتعبيراته تشكو من فجوة عميقة،
فهل يُفهم من ثنايا رسالة الرئيس استمرار هذا الأخير ونخبته، أو جزء منها، وإسناد مهمة إدارة المرحلة الانتقالية إلى النظام نفسه؟ فإذا كان هذا هو قصد الرسالة وهدفها، فإن العملية لن تكون، كما فهم الشارع الجزائري، سوى محاولة لربح القوت وإمداد النظام بما يساعده على إعادة انتاج ذاته، وهذا لن يحل مشكلة الجزائر، بل سيفاقمها في المستقبل القريب.
يرتبط المشهد الثاني بمشروع ما عبرت عنه حناجر المتظاهرين، الذين اقترب عددهم من عشرة ملايين في حراك الجمعة الثالثة (أي نصف الكتلة الناخبة الجزائرية)، تحديدا رحيل الرئيس الحالي ونخبته، أو على الأقل العناصر الأكثر تورطا في ما آلت إليه البلاد من فساد وتبديد لأرصدة القوة الوطنية، والتهيؤ لانتقال نوعي جديد، يضمن الحرية، والكرامة، والتوزيع المتكافئ للثروات، وفسح المجال أمام الطاقات الشابة، ذكورا وإناث، لقيادة بلدهم.. إنه المشهد الأمثل الذي ينشده عموم الجزائريين.. لكن من يقوده؟ وهل هناك بديل واضح وناضج من الكفاءات السياسية والثقافية والاجتماعية قادرة على الدفع به نحو التحقق والنجاح؟.. إنه سؤال الأسئلة في سيرورة الحراك الجزائري وتطور آفاقه.
العمل بصدق على البحث عن المشترك، وهو البحث عن صيغة توافقية، ممكنة التطبيق في الوضع الدقيق والمرتبك للجزائر، توقف العهدة الخامسة بتأجيل الانتخابات الرئاسية، وتشكيل هيئة وطنية
من الطّرق على الحِلَل إلى الطّرق على أبواب الطغاة