في التاسع من آذار/ مارس 1919م، انطلقت ثورة شعبية مصرية عقب الحرب العالمية الأولى، بقيادة الوفد المصري الذي كان يرأسه حينئذ سعد زغلول ومجموعة كبيرة من السياسين المصريين. وجاءت تلك الثورة نتيجة للاستعمار البريطاني الذي احتل مصر في 12 آب/ أغسطس 1882م وتدخله المقيت في كافة شؤون الدولة، فضلا عن إلغاء الدستور وفرض الحماية وإعلان الأحكام العرفية، إضافة إلى طغيان المصالح والامتيازات الأجنبية على الاقتصاد.
وقد كان وقود هذه الثورة الشعبية الطلاب الذين عمت مظاهرتهم القاهرة والإسكندرية والأقاليم، وقد تصدى المجرم المحتل وأعوانه من الخونة من بني جلدتنا لتلك المظاهرات، بإطلاق الرصاص عليهم، مما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى. وقد استمرت أحداث الثورة، وبدأت نتائج ثمارها الحقيقية في العام 1923 بإعلان الدستور والبرلمان.
وإذا تجاوزنا الوضع السياسي الملتهب، والذي كان يعكس الجوانب الاجتماعية في جنبات المجتمع المصري، فإن هذا الوضع السياسي لم يكن ينفصم عن الوضع الاقتصادي الذي شهد نفوذا للأجانب وامتيازات فاقت الرعايا المحليين، لا سيما في البنوك والمصانع والمتاجر، فضلا عن تدني أسعار القطن بعد الحرب العالمية الأولى بنسبة انخفاض وصلت لنحو 300 في المئة، ثم احتكار الحكومة البريطانية محصول القطن عام 1917 بسعر يصل إلى نصف سعره الحقيقي، وإلغائها عقود تصديره وحصرها في عدد محدود من شركات التصدير الأجنبية، وهو ما أوقع المزارعين في أزمة بعد رفض البنوك التسليف لزراعة القطن، ومطالبتها بما لها من مستحقات سابقة متعثرة، وهو ما أدى إلى لجوء الكثيرين إلى بيع أقطانهم بأدنى سعر، وكذلك بيع ما لديهم من مصوغات وماشية والاستدانة من المرابين لسداد ديونهم المتعثرة. وفي المقابل، قامت الحكومة بتحميل كاهل المصريين بضرائب لا قبل لهم بها نتيجة الوضع الاقتصادي المتردي، واستخدمت أساليب قاسية في تحصيلها.
منيت مصر بانقلاب عسكري في 23 تموز/ يوليو 1952م قادته مجموعة من الضباط؛ وضعوا في بيانهم أهدافا ستة، وحققوا منها هدفا واحدا، فقضوا على ما تبقى في مصر من حرية، وتحوّلوا هم إلى إقطاع اقتصادي وسياسي واجتماعي
وإذا كان من المأثور عن المفكر الإيراني على شريعتي قوله: "لا فرق بين الاستعمار والاستحمار، سوى أن الأول يأتي من الخارج والثاني يأتي من الداخل"، فإن هذا القول البليغ يعكس حال مصر ماضيا ومستقبلا، فقد منيت مصر بانقلاب عسكري في 23 تموز/ يوليو 1952م قادته مجموعة من الضباط؛ وضعوا في بيانهم أهدافا ستة، وحققوا منها هدفا واحدا، فقضوا على ما تبقى في مصر من حرية، وتحوّلوا هم إلى إقطاع اقتصادي وسياسي واجتماعي، فاستأثروا بالسلطة والثروة، ولم نسمع لهم إلا أصواتا عالية ونتائج كارثية على العباد والبلاد والاقتصاد.. وباتت السلطة مورثة بين العسكر لا غيرهم، وأصبح الوضع الاقتصادي في عهدهم أسوأ حالا عنه في عهد الملكية، وبات الاستحمار هو واقع تلك المرحلة، والتي انتهت بنهاية حكم مبارك بثورة شعبية حقيقية؛ رفعت شعارا يعبر عن واقع الحياة المفقود (عيش، حرية، عدالة اجتماعية).. وهذا الشعار يعكس حال البلد في عهد مبارك، فالحصول على لقمة العيش التي يقتات منها الإنسان بقائه كان أمرا صعبا، والحرية أصبحت من باب التسالي، كما قال مبارك نفسه (خليهم يتسلوا)، أما العدالة الاجتماعية فقد ضاعت مع سِفاح (وليس زواج) السلطة بالثروة والتوجه المحموم نحو التوريث.
لقد كانت ثورة كانون الثاني/ يناير 2011 ثورة على الاستبداد والفساد وجاءت، بانتخابات حرة نزيهة ولد من رحمها برلمان شعبي منتخب وأول رئيس مدني في تاريخ مصر، وهو الدكتور محمد مرسي، ولكن أبى العسكر أن يفرطوا في فسادهم واستبدادهم، فحلوا البرلمان، واستخدموا الاقتصاد بصفة خاصة لضرب أول رئيس مدني منتخب، فعملت أجهزتهم المخابراتية من خلال مال خليجي خبيث ودعم صهيوني مقيت؛ على خلق مشاكل اقتصادية، فألقوا بالبنزين والكيروسين في الصحراء لتشتعل أزمة الوقود، ودعموا مظاهرات شكلية وعناصر البلاك بلوك للنهب والحرق، وجعلوا الشائعات منهجا، مثل بيع قناة السويس وغيرها من موارد الدولة لقطر، واستغلوا إعلاما مأجورا يزيّن باطلهم وكذبهم.. ولكنهم نجحوا بما يمتلكون من دولة عميقة وقوى سياسية بين عميل وغافل،
وشيخ أزهر منبطح، وبابا كنيسة حاقد، وجموع في جلها مأجورة (تم تضخيم عددها).. نجحوا في إزاحة الرئيس المنتخب من مكانه في 30 حزيران/ يونيو 2013 ، والاستيلاء على السلطة، ثم انفراد العسكر بها والتخلص ممن ساندوهم للانقلاب على الرئيس المنتخب، بعد شهور من سجن الرئيس المنتخب ومذبحة رابعة والنهضة وسجن نحو 60 ألفا من أنصاره، لتعود مرحلة الاستحمار مرة أخرى.
لقد جاء السيسي ذلك الممثل المغمور الذي لا يملك ذكاء بقدر ما يملك تنفيذا دقيقا للدور المرسوم له من قبل الصهاينة وقوى الشر (التي طالما يصف الإسلاميين ظلما بها).. جاء ذلك المغمور لينتقم من كل من شارك في ثورة يناير، وفي مقدمة ذلك الشعب نفسه، فاستخدم تجاهه منهج عقيدة الصدمة.. صدمة سياسة بغلق أي نفس للعمل السياسي، وببناء السجون وفتح أبوابها؛ ليس لمن يتكلم فقط بل لمن يصرخ من غلاء الأسعار أو يتململ من ظلم النظام.. واستخدم التعذيب منهجا، مع حمايته للمدمنين له من زبانيته، فضلا عن إعدام المظلومين شنقا أو تصفية أو مرضا..
ويوم الانفجار لن تفلح طلقات الرصاص لصد الثائرين لنيل حقوقهم المغصوبة، كما حدث في ثورتي 1919 و 2011
أما الصدمة الاقتصادية، فكانت برفع الدعم عن السلع الأساسية، وزيادة الضرائب بصورة جنونية، والتخلص من العمالة، وتحميل الشعب ديونا لا قبل له بها، في الوقت الذي ينعم هو وأتباعه بنعيم العيش وترفه، حتى بات من كذبه واستمرائه له أنه يقسم أنه صادق وأنه أمين وأنه شريف. بل من العجب أنه يقول إنه سيشتكي شعب مصر أمام الله، وهو المسؤول عن الرعية الذين جاعوا وعروا وأكلوا من القمامة وانتحروا، حتى بات بعض الناس يترحمون على عهد مبارك المستبد الفاسد مقارنة بحكمه. بل العجب الأكبر ادعاؤه أن مصر ستحُل بها مشكلة اقتصادية عام 2060، وقد وجّه بالتصدي لها من الآن.. وهو الذي أوحل مصر واقتصادها حاليا في مشاكل مزمنة وعجز عن حلها، بل جاء حله وبالا، من خلال عربات خضار أو بيع أراضي الدولة أو استصلاح وهمي للأراضي، أو عاصمة جديدة تزيد من الأعباء وتنهك الاقتصاد.. أو كان سرابا للتنمية لخدمة الديون.
إن ما تعيشه مصر الآن هو نذير لتوابع ثورة كانون الثاني/ يناير، فإذا كان العسكر نجحوا في الاستيلاء على السلطة بخديعة كبرى وتآمر دولي وتقصير محلي، فإن الوضع في مصر كالنار تحت الرماد، لا سيما الوضع الاقتصادي، ويوم الانفجار لن تفلح طلقات الرصاص لصد الثائرين لنيل حقوقهم المغصوبة، كما حدث
في ثورتي 1919 و 2011.. ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا، وما انتصار الشعب الجزائري وتجديده للربيع العربي منا ببعيد.