همجية "بيضاء" ودعر تضامني.

لم يكن غريبا أن تكون "تعزية" الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو الرمز الأكثر تأثيرا في منظومة العرق الأبيض و"سموه"، خالية من أية إشارة إلى الضحايا الذين سقطوا في عملية مسجدي كرايتس تشيرش النيوزيلندية، التي تحاشى تسميتها إرهابا واكتفى بتصنيفها "مذبحة مروعة"، فـ"الإرهاب" في نظر ترامب خصلة "إسلامية" تتربى عليها أجيال المسلمين جيلا عن جيل، ولا مجال في فكره أن يكونوا ضحايا إرهاب أبيض همجي منقول على الهواء. 

 

إدانة الإرهاب مبدأ إنساني لا موقفا يتلون حسب أهواء الحكام،

لكن الغريب كان انتظار غير ذلك الموقف من رئيس أمريكي بنى حملته الانتخابية على التحريض على المسلمين والتخويف من "غزوهم" لبلدان الغرب، وافتتح ولايته بمنع هؤلاء "الغزاة" من دخول الولايات المتحدة الأمريكية من سبع بلدان لا يجمعها غير الإسلام دينا رسميا. ترامب الذي نظر لتفوق العرق الأبيض، وسعى من أجل ذلك إلى بناء جدار فصل عنصري يحمي عالمه "المتحضر" من أن يدنسه المهاجرون.

لكن الأغرب من كل ما سبق كان انتظار موقف إدانة حازم من حكام عرب لا يملكون من قرارهم شيئا، ويدينون بمناصبهم للخارج الذي صارت بوصلته موجهة يمينا أو إلى أقصى اليمين، حكام  جاثمون على صدور شعوب ومقدرات بلدانهم، بل صاروا يعيبون على نظرائهم الغربيين، المنتخبين ديمقراطيا، عدم فهمهم لما يعتمل داخل مساجد الغرب من مخططات "إرهابية"، وهم ينظرون من خلال تحريضهم ذلك لفكر استئصالي لا يكتفي بقتل وتشريد المواطنين داخل الحدود، بل يلاحقهم خارجها بالتحريض ورفع العتب عن المجرمين المحتملين. 

أما ما لم يكن غريبا البتة فكان تسابق شيوخ السلاطين إلى التقليل من وقع الجريمة الإرهابية بالتذكير بجرائم المسلمين في حق بعضهم البعض، أو استذكار تغريدات "بائتة" ملؤها السجع والفذلكة اللغوية صالحة لكل زمان ومكان، وخالية من أية مشاعر أسى صادقة أو استنهاض لهمم الأمة أو استعادة لأمجادها، أو أي وعظ أو حكمة تساعد على تجاوز المحنة والتدبر فيها. 

 

اليوم، لا نحصد إلا ثمار ما زرعناه بالصمت أوالتواطؤ أو الجهل في الداخل أو الخارج على حد سواء.

إدانة الإرهاب مبدأ إنساني لا موقفا يتلون حسب أهواء الحكام، ولمن نسي نذكر أن القاتل والمقتول في السفارة السعودية باسطنبول كانا مسلمين، دون أن يثير ذلك في الكلباني وغيره حماسة للتنديد أو الاستنكار.

صحيح أن الإرهابي الذي حمل بنادقه الرشاشة ووجهها ضد مصلين عزل، ما كان ينتظر من السيسي أو ابن زايد أو ابن سلمان أو الكلباني أو السديس أو غيرهم من دعاة الإسلام الجديد، الذي لا فرق في الدعوة فيه بين سياسي قاتل أو مغتصب لحقوق مواطنيه أو شيخ مخبر بالحرم أو لاعب محترف لألعاب الورق، التي كانت إلى عهد قريب ميسرا وقمارا. فاليمين الغربي ومنظروه فعلوا فعلتهم في عقول الناس، من خلال كتابات وأفلام ونشرات أخبار على المقاس. رونو كامو واحد من هؤلاء الذين نشطوا في شيطنة المسلمين محذرين من أسلمة فرنسا، بالتحديد، بل من استبدال العرق الفرنسي الخالص بأعراق جحافل من المهاجرين، لا يكفون عن التناسل والتكاثر بالشكل الذي يهدد التوازن العرقي بالقارة العجوز.

 

الاستبدال العظيم

عنونة بيان الإرهابي الأسترالي المستوحى من كتاب كامو "الاستبدال العظيم"، دليل واضح على تأثير منظري اليمين الأوروبي المتطرف في عقول الشباب. ما استجد بالجريمة الإرهابية بالمسجدين، انتقال من محاولة التغيير عبر صناديق الاقتراع إلى تبني فعل عنيف على الأرض، نقلته وسائط التواصل الجديدة المنفلتة من الرقابة إلى العالم، قبل أن يسابق القائمون عليها الزمن لإخفاء آثار الجريمة عبر مسح كل ما تقع عليه أيديهم من صور أرخت للحدث، وكرست للهمجية "البيضاء" في أحلك تلاوينها.

محاولات ترامب وغيره من رموز اليمين الغربي التغافل عن ذكر المسلمين في "التعازي" وتفادي كثير من وسائل الإعلام العربية كما الغربية نعت العملية بالإرهاب، محاولة يائسة لتبييض وجه قميء استكثر على المسلمين أن يكونوا ضحايا إرهاب أعمى، فاللاوعي العالمي مجبر على تخيلهم فاعلين أصليين للإرهاب لا ضحاياه. 

 

المقاومة والإرهاب

مقاومة المحتل الغاصب للأرض في فلسطين أيضا إرهاب في محبرة معدي البرامج والنشرات وكتاب الأعمدة والقصاصات، ولو كانت المؤسسات الناشرة عربية الموطن لا الهوى. ولعل في كتابات كثير من المنتسبين للإسلام جاهدوا خلالها في التذكير، دونما مناسبة، بأعمال إرهابية كان المسلمون "أبطالها" وهي حقائق لا مجال لنكرانها. لكنها بالمقابل ليست ذريعة لتبرير فعل لم تتوان رئيسة وزراء نيوزيلندا من وصفه بالإرهاب، وهي صاحبة الشأن والاختصاص. ولأن الغربيين أذكى فقد اختاروا التركيز على بشاعة المشهد، بما يبرر الرقابة عليه ومنع بثه، والتغافل بالمقابل عن بشاعة الجريمة الإرهابية والمحرضين عليها. وتخفيفا من وقع الجريمة كان لزاما البحث عن قصص لـ"أبطال" واجهوا الإرهابي والتركيز عليها تشتيتا للانتباه.

قبل أيام فقط من حمام الدم النيوزيلندي، قرر قاض كندي الحكم على ألكسندر بسيوينت، الذي نفذ هجوما إرهابيا على المركز الثقافي الإسلامي بمدينة كيبيك في العام 2017 وقتل ستة مصلين، بالمؤبد، مستبعدا أن يكون ما قام به فعلا إرهابيا بل جريمة كراهية ليس إلا. بيسوينت كان من الأسماء التي "زينت" رشاشات "بطل" عملية المسجدين بنيوزيلندا، بما يؤشر على تنظيم "عقدي" غير تقليدي عابر للقارات، واستمرارية في التحريض والفعل الإرهابيين المستهدفين للمهاجرين وللمسلمين على وجه الخصوص.

قبل سنوات قليلة ضجت شاشات القنوات التلفزيونية بصور لجحافل مهاجرين يمشون زرافات على الطرقات، منطلقهم سوريا وبقية بلدان الخراب الشرق أوسطي، ووجهتهم الفردوس الأوروبي. لم تكن الصور المتتالية والتركيز المفرط عليها عملية بريئة، بل تحريض غير مباشر على القادمين الجدد الطارقين لأبواب وحدود أوروبا. ولم يكن أفضل من تلك الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام العربية، وأفردت لها مساحات واسعة من التغطية للترويج للفكر اليميني. 

اليوم، لا نحصد إلا ثمار ما زرعناه بالصمت أو التواطؤ أو الجهل في الداخل أو الخارج على حد سواء.

وبين هدر الحقوق في الوطن والاتهامات بالعجز عن "الاندماج"، والدعوات المتعاظمة للدفاع عن نقاء العرق الأبيض في "مواطن اللجوء"، يجد المهاجرون والمهجرون أنفسهم بين مطرقة الخنوع وسندان الإذلال. أما الموت الذي يفرون منهم، فملاقيهم مهما تعددت الأسباب واختلف الفاعلون.