لا جدال أن ثورة الجزائر حققت انتصارا كبيرا بإزاحتها رأس السلطة، الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ولكنه ليس نهاية المطاف بل بدايته فى طريق طويل وعر، فيه العديد من المسارات المنحنية والمطبات، فأرجو ألا تأخذ الجزائريين نشوة الفرحة وتسكرهم كما أسكرت المصريين بعد خلع مبارك، فما هو قادم أهم وأخطر كثيرا مما هو فات.
استقال قبل أن تتم تنحيته
اضطر بوتفليقة أن يقدم استقالته أمام الضغط الجماهيري، ولكنه قطع الطريق على قائد الجيش أحمد قايد صالح، فلم يمكنه من عزله وتنفيذ خطته وتطبيق المادة 102، التى بمقتضاها يتم عزله لظروفه الصحية، وقدم استقالته لرئيس المجلس الدستورى، وهو أحد رجاله الموالين له، التي بموجبها يعلن شغور منصب رئيس الجمهورية ليتم شغله مؤقتا برئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح، لمدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر كمرحلة انتقالية، يتم فيها انتخاب رئيس جديد للبلاد، وذلك طبقا للدستور الجزائري.
وعبد القادر هذا من رجال بوتفليقة أيضا، وظل يشغل هذا المنصب لمدة 17 عاما، إذن سيظل جسد السلطة قائما صلبا كما هو ويتغير الرأس فقط برأس جديد أو بنيولوك لبوتفليقة آخر، يختاره جنرالات الجيش، جنرالات "النفط والأرز والقمح"، أو كما يطلقون عليهم فى الجزائر "أبناء باريس في وطن ابن باديس" ليكون عروسة "ماريونت" يمسكون خيوطها بأيديهم ويحركونها كما يريدون وكيفما يشاؤون، كما فعلوا مع الرئيس بوتفليقة منذ عام 2013 مع بداية مرضه الخطير، وأصبح غير قادر على حكم البلاد ولكنهم أصروا على ترشيحه للعهدة الرابعة بالحماس نفسه الذي أبدوه في ترشحه للعهدة الخامسة قبل أن يسقطها الثوار، لتظل جميع الخيوط في أيديهم يحركونها من وراء ستار، ويظلون قابضين على المشهد الجزائري.
رفض بقاء العصابة
ولكن الشعب الجزائري المتعلم والواعي لما يحاك ضده من مؤامرات للالتفاف على مطالبه وإجهاض ثورته، خرج بالملايين في أول جمعة له بعد رحيل "بوتفليقة"، منددا بالعصابة كلها التي تحكم الجزائر، مطالبا برحيلها وأطلق عليها "جمعة إسقاط الباءات الثلاث"، ويقصد بها رئيس المجلس الأمة عبد القادر بن صالح ورئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز، ورئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية السابق نور الدين بدوي الذي عينه بوتفليقة مؤخرا.
والملفت للانتباه بل المثير للدهشة، أن ثوار الجزائر لم يطالبوا برحيل قائد الجيش أحمد قايد صالح، ولذي يقترب من عامه الثمانين ويشغل منصبه منذ خمسة عشر عاما، وهو من تلك المنظومة أو العصابة الفاسدة على حد وصفه للمجموعة التي كانت تحكم الجزائر في بيانه، وتغافل عن أنه كان أحد أضلع تلك العصابة الفاسدة، وهو ما يدعو للسخرية من هذا العجوز الذي تغير خطابه للشعب الجزائري خلال السبعة أسابيع الماضية منذ اندلاع الثورة، ما بين التهديد والوعيد والتلويح "بالعشرية السوداء" الذي كان هو أيضا من بين مجرميها أو عصابتها، وبين استمالة الثوار والادعاء بالتعاطف مع مطالبهم المشروعة!
ما يحدث الآن خلف الكواليس هو صدام بين مكونات الدولة العميقة التي تحكم الجزائر منذ ما يقرب من الستين عاما
كما هو واضح من المشهد، أن الصراع على أشده داخل العصابة نفسها، بين العسكر المقربين من بوتفليقة والموالين له وعلى رأسهم شقيقه السعيد بوتفليقة، أي معسكر الرئاسة وبين العسكر الموالين لرئيس الأركان، وقد أشار لاجتمعاتهم السرية في بيانه عن العصابة الفاسدة لهذا أقال رئيس جهاز المخابرات، من غير ذي صفة، فهو ليس من سلطاته، وأعاد الجهاز تابعا للجيش وليس لرئيس الجمهورية، كما كان في عهد بوتفليقة الذي كان رئيسه مستشارا له، ومنع السعيد بوتفليقة من مغادرة البلاد، وترددت أخبار عن اعتقاله، كما تم توقيف بعض رجال الأعمال الموالين له ولبوتفليقة ومنعهم من السفر.
لذلك، فما يحدث الآن خلف الكواليس هو صدام بين مكونات الدولة العميقة التي تحكم الجزائر منذ ما يقرب من الستين عاما، تتصارع فيه الأجنحة المختلفة بعضها مع بعض (عسكر منه فيه) لا دخل للشعب فيه، وإن كانت نتائجه ستنعكس بشكل أو بآخر، أيا كان المنتصر فيهما، عليه بالسلب في كلتا الحالتين، فهؤلاء العسكر لا يهمهم الشعب ولا يعيرونه اهتماما، فهو خارج سياق اللعبة ولا يسمح له بالمشاركة فيها، وما عليه إلا الجلوس في مقعد المتفرجين، أن كل ما يرمون إليه العسكر هو مصالحهم الذاتية ومكتساباتهم الشخصية ولا يهتمون بمصلحة البلاد العليا، المهم ألا تخرج البلاد من قبضة أيديهم حتى لو دفعوا البلاد إلى الهاوية، وأحرقوا الأخضر واليابس كما حدث فى التسعينيات، فقد قال أحدهم "إن الجزائر البلد الوحيد الذي يبحث عن الفوضى، بينما الشعب يبحث عن السلم والاستقرار".
وهذا ما يجعلني أعيد سؤالا كنت قد طرحته من قبل في مقال سابق ولم أجب عليه، لكنني اليوم بعد أن أزيحت بعض الشوائب عن الصورة وأصبحت أكثر وضوحا للعيان، أستطيع أن أجيب عليه، وهو هل جنرالات الجيش المهيمنة على السلطة، لم تكن تعرف أن الشعب سيثور ضد قرار ترشح مومياء بوتفليقة؟
مطالب الثوار أبعد من تنحية بوتفليقة
يقينا كان يعلم أن بلد المليون شهيد لن يقبل شعبه الاستهانة والاستخفاف به لهذا الحد! وأن مطالب الثوار لن تتوقف عند إزاحة بوتفليقة بل المطالبة بإزاحة منظومة الحكم كاملة أو (العصابة الفاسدة) على حد تعبير رئيس الأركان، لذلك أرادوا الاستفادة من هذه الثورة لتصب في مصالحهم في نهاية المطاف كما حدث مع ثورة مصر في كانون ثاني (يناير) 2011 ، السيناريو نفسه سيُتبع، فالعسكر نهجهم واحد لا يتغير بتغير الزمان أو المكان، فكما وقف اللواء الفنجري عضو المجلس العسكري المصري وأدى التحية العسكرية لشهداء ثورة يناير، وقف رئيس الأركان الجزائري يحييّ حراك الشعب الجزائري ويعلن تأييده التام لمطالب الشعب المشروعة، ويردد الكلام المعسول نفسه من أنه سيقف إلى جانب الشعب حتى يسترجع حقوقه وسيادته، وهو الذي كان يهددهم في بداية ثورتهم وأن من بينهم مندسين وخونة، ويتوعدهم بمصير العشرية السوداء، وكما انخدع الشعب المصري وخرج يقول "الشعب والجيش إيد واحدة" خرج الشعب الجزائري ليردد "جيش شعب خاوة خاوة".
لقد كانت ثورة يناير حلما للجزائريين، فرحوا بها كثيرا كفرحتنا بثورتهم الآن، ومن حقهم أن يفرحوا بما أنجزوه، ولكن هذا لا يمنعنا من القلق عليهم مما هو آت، وبعيدا عن الخطاب الجزائري الانعزالي الذي يتبناه بعض الشوفينيين، ومحاولات سلخ الثورة عن ثورات الربيع العربي الفاشلة، نقدم لهم خلاصة ثماني سنوات من التجارب المريرة لشعوب الموجة الأولى من الربيع العربي، ليأخذوا منها العبر والدروس، وخاصة أن الوضع في الجزائر قريب الشبه للوضع في مصر، فالمؤسسة العسكرية في البلدين هي الأقوى وهي التي في يدها زمام الأمور، لكن الأشقاء الجزائريين يغضبون منا ويرفضون نصائحنا، مع أن تجارب الثورات تُعلم بعضها البعض وكلها دروس مستفادة من الثورات، ولكنهم لا يحبون النصح ويستاؤون منه وتثير لديهم حساسية، وقد عبروا عن ذلك على شبكات التواصل الاجتماعي ويقولون الجيش الجزائري غير الجيش المصري!!
كانت ثورة يناير حلما للجزائريين، فرحوا بها كثيرا كفرحتنا بثورتهم الآن، ومن حقهم أن يفرحوا بما أنجزوه ولكن هذا لا يمنعنا من القلق عليهم مما هو آت
هجوم حفتر على طرابلس
كما أنني لا أستطيع أن أبعد ما حدث في ليبيا (الجارة القريبة من الجزائر) مؤخرا على يد اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر والمدعوم عسكريا وماديا من الإمارت والسعودية، عن المشهد الجزائري، فقد جاءت عمليته العسكرية الفاشلة مباغتة بعد اجتماعه مع العاهل السعودي وولي عهده، والزيارة المفاجئة لولي العهد الإماراتي لمصر، وذهابه المريب إلى منطقة "العلمين" المجاورة لليبيا، مما يجعلنا نشك في نواياها الحقيقية، فهي لم تكن تستهدف فقط الحكومة المعترف بها دوليا وتحقيق حلم حفتر بالسيطرة على العاصمة، بل كان الهدف أبعد من ذلك بكثير، كان الهدف اغتيال روح الربيع العربي، الذي دبت فيه الحياة من جديد عبر ثورة الجزائر، وإحداث قلاقل واضطرابات في الجنوب الشرقي الجزائري وإدخال الجزائر في حالة حرب على الحدود يتسلل إليها عناصر داعش الاستخباراتية وتصبح حربا على الإرهاب (فعلوها في سوريا من قبل)، مما يربك الثورة ويشتت الثوار وليخرج منها قايد صالح البطل المغوار، الذي حافظ على البلاد والعباد وأنقذ الجزائر من السقوط! لولا أنه مني بهزيمة ساحقة لتحقق ذلك، ولكن المؤامرة لاتزال مستمرة ولايزال مركز صناعة الثورات المضادة مفتوحا!!
وعلى النقيض تماما من الحكام العرب، تقف الشعوب العربية مع شعب الجزائر الشقيق وتريده أن يستكمل ثورته حتى نهايتها ويقضي على كل المنظومة الفاسدة التي حكمته طيلة العقود الماضية، وتأمل أن يُقيم جمهوريته الثانية بإرادته الحرة المستقلة.
إن أفئدتنا تهوي لثورة الجزائر ونضع فيها أحلامنا وآمالنا بالحرية والديمقراطية، بعدما أجهضت ثورات الربيع العربي بالثورات المضادة وأعادت بلادها إلى الأنظمة الاستبدادية الفاسدة نفسها، التي ثارت الشعوب ضدها وأسقطتها، وبعد أن استنشق المواطن نسيم الحرية وشعر بكرامته الإنسانية، أعادته الثورات المضادة، مرة أخرى إلى حظيرة الخوف والقهر والذل!
فلتكن ثورة الجزائر باكورة الموجات الثورية الثانية التي تبعث الروح في ثورات الربيع العربي، وتخرج المواطن العربي من حالة الإحباط التي انتابته عقب الثورات المضادة.
تجاذب "الدستوري" و"السياسي" في حراك الجزائر