في أحد مراكز الاقتراع في حي المنيل المطل على النيل، والذي يعد من الأحياء التي تضم طبقة متوسطة عليا أغلبها من الموظفين ورجال الأعمال، قال أحد الناخبين أمام الكاميرا، إنه يؤيد تماما التعديلات
الدستورية.. وفي شبرا ذات الكثافة السكانية، والتي يسكنها غالبية مسيحية، نقلت الكاميرا اصطفاف طابور طويل من النساء أمام أحد اللجان.. كلهم يؤيدون التعديل الدستوري الذي يهدف إلى ترسيخ حكم عبد الفتاح
السيسي، زعيم الانقلاب الذي يقدم نفسه كصخرة لاستقرار شريحة معينة منتفعة من بقائه.
ليس بعيدا عن تلك اللجنة والحي، وفي حي الوايلي، الفقير أهله، اصطف طابور طويل يوازيه طابور آخر خارج من اللجنة الانتخابية حاملين كروتا صفراء، لاستلام سلالهم الغذائية، مقابل الحبر الفسفوري المطبوع على أصابعهم، وهو ما جعل أهالي الحي يتهافتون على لجان
الاستفتاء لنيل نصيبهم من هذا الوطن (كرتونة مواد غذائية)، في صفقة تذكر باتفاق النفط مقابل الغذاء الذي عقده مجلس الأمن مع العراق أيام الحصار الرهيب.
وفي مشهد آخر يثير الغثيان، كمشهد من مشاهد روايات الكوميديا السوداء، أو فيلم فانتازيا لرائدها رأفت الميهي، يوقف رجال الشرطة المدنية وسائل المواصلات لاقتياد الركاب إلى لجان الاقتراع. ويروي أحد التجار موقفا، حسبته من فيلم "هي فوضى"، حيث يدخل رئيس مباحث القسم في الحي الذي يمارس فيه نشاطه التجاري ومعه مجموعة من رجال الشرطة، يلقي التحية على الرجل ويسأله: لماذا لم تضع لافتة تأييد للدستور والرئيس؟
فيجيب الرجل: الشارع امتلأ ولا مكان للافتة لي، ليرد الضابط: لا مشكلة سنطبع للكل لافتة، وهذا سيكلفك خمسة آلاف جنيه (رقم مبالغ فيه جدا).. برضوخ يرد التاجر، حاضر يا فندم.. يستكمل الضابط: وخمسون ألف أخرى، يصرخ التاجر، ليه، يجيب الضابط لصندوق تحيا
مصر، التاجر لكني تبرعت من أشهر، الضابط: على العموم لا مشكلة فالرخصة المنتهية غرامتها 100 ألف وعدم التأمين على العمال 100 ألف وبروز للمحلات 100 ألف. فيرد الرجل: غدا إيصال التبرع سيكون عندك في المكتب، فيرد الضابط، اجمع لي هويات العمال ليتسلموها في لجنة الاستفتاء.. فلم يكتفِ النظام بحشد المجندين من الجيش والشرطة بعد ارتدائهم الزي المدني.
الترهيب والترغيب والإعلام واستخدام نجوم الفن والكرة، أدوات قديمة استخدمها رؤساء النظام المتعاقبين منذ انقلاب تموز/ يوليو، لتخرج استفتاءاتهم في دائرة التسعين في المئة عبر الثمانية وعشرين استفتاء شهدته مصر، من حينها وإلى الآن، كان ثمانية منها على الدستور، لكن اللافت في استفتاء النظام الأخير، هو غياب الإبداع عنه. فعلى الرغم من الوسائل الحديثة وتطور التقنيات وأدوات الاتصال، إلا أن النظام ما زال يستخدم الأدوات القديمة والأساليب البالية لجبر الناس على رسم المشهد البانورامي الذي يطلبه ليصدره للعالم، ليؤكد على فشله كنظام وفشل إعلامه، رغم إنفاق المليارات في إقناع الناس بشرعية سياساته وتشريعاته.
وكما لم يقنع النظام بوسائله هذه الداخل، لم يفلح لقاء رأس النظام براعي البقر الأمريكي في إضفاء شرعية على تلك التعديلات، على الرغم من أن زيارة السيسي لأمريكا لانتزاع البركة من سيده، وتقمص الأخير دور قس في العصور الوسطى يمنح صك الغفران بمقابل، فكان الثمن هو مزيد من الخضوع والاستخدام لصالح المشروع الصهيوني، بمزيد من قمع الشعوب الحرة، أو بيع الأرض المقدسة في ما يسمى صفقة القرن، والتي بات الإعلان عنها مسألة وقت كما قال كوشنر بالأمس، وهو ثمن لو تعلمون عظيم.
لكن بعيدا عن أذهان هؤلاء المتمتعين بثخانة الجلد وجمود العقل من فرط القوة واعتياد القمع، فالعالم قد تغير منذ 2011، والشعوب رغم إنهاكها ما زالت تقاوم الاستعباد وصولا إلى الحرية. فالسودان والجزائر صارتا قبلة حياة وطوق نجاة للثورات العربية، التي لم تمت رغم ملايين الرصاصات وآلاف القذائف التي حملتها كل أنواع الأسلحة المصنوعة غربيا والمستخدمة شرقيا، هذه الأمة لا تموت أبدا، وعليهم أن يفهموا قبل أن تدهسهم الثورات التي استيقظت من جديد لتزيل الطغاة.