ما يجري بين إسرائيل وسوريا برعاية روسية يتجاوز الظاهر منه. مطلع
الشهر الجاري أعلنت إسرائيل عن تسلم رفات جندي إسرائيلي كان مدفوناً في مخيم
اليرموك الفلسطيني في سوريا، هو ممن قُتلوا في معركة السلطان يعقوب في لبنان إبان
الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، بعدها بأسبوعين تقريباً أعلنت إسرائيل عن الإفراج
عن «سوريين» اثنين، أحدهما فلسطيني من تنظيم «فتح» والآخر سوري يعمل في تهريب
المخدرات!
شتان
بين المشهدين بالطبع، لا سيما إذا ما أُضيف إليهما أن الرفات الإسرائيلي حظي
بتكريم روسي في موسكو مُبالغ في حفاوته، قبل نقله إلى إسرائيل، في حين أن المفرج
عنهما، الفلسطيني والسوري، حاولا التملص من العودة إلى سوريا، كلٌّ لأسبابه!
مع
ذلك، ورغم هذه المفارقات الجارحة، يبقى من تفاصيل ما حدث أنه نوع من إجراءات بناء
ثقة بين إسرائيل وسوريا برعاية روسية مباشرة، من دون أن يعلن أيٌّ من الأطراف
المشاركة عن السياق الأوسع للاتصالات الجارية وما هي أهدافها النهائية.
وهي
تحصل في لحظة انشغال إيران بأزمتها المتفاقمة مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب،
بعدما تقدم الأخير خطوة إضافية على طريق محاصرة إيران اقتصادياً، من خلال إعلان
إدارته عن إلغاء الإعفاءات الممنوحة لسبع دول وتايوان، تسمح لهم باستيراد النفط
الإيراني رغم نظام العقوبات.
فإيران
منشغلة الآن بإيران، وجهودها المصبوبة للدفاع عن طهران لا تترك لها الكثير في
جعبتها للدفاع عن مراكز «إمبراطوريتها الورقية»!
الثابت
أن القاسم المشترك بين اللاعبين الأساسيين في سوريا هو إخراج إيران منها. هذا هو
الموقف الإسرائيلي المعلن، والمقترن بسياسة الضربات المفتوحة لكل الأهداف
الإيرانية الممكنة في عموم سوريا، بالتفاهم مع موسكو.
وهذا
هو الموقف الضمني الروسي الذي تغلفه موسكو بموقف أعمّ يقول بضرورة انسحاب «كل
القوات الأجنبية من سوريا»! فموسكو تعتبر أنها هي من انتصر في سوريا وليس أيٌّ من
«حلفائها» وبالتحديد إيران، ولا يكفّ مسؤولوها عن تذكير نظام خامنئي بهذه الوقائع.
آخر التصريحات في هذا السياق ما قاله رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة
الروسية الجنرال فاليري غيراسيموف، في مؤتمر موسكو الثامن للأمن الدولي، إن دعم
موسكو العسكري لدمشق في عام 2015 جنّب الدولة السورية الانهيار تحت ضربات
الإرهابيين.
أما
عملياً فقد أبلغت موسكو مَن يعنيهم الأمر في دمشق وطهران بأن استحواذ طهران على
مرفأ اللاذقية سيجعله هدفاً مشروعاً للإسرائيليين كما سيكون خاضعاً للحصار من قِبل
الدوريات البحرية الأوروبية والأميركية.
المضحك
أن إعلام إيران يبالغ في مسألة ميناء اللاذقية في حين أن سفن المحروقات الإيرانية
باتت عاجزة عن الوصول إلى سوريا بعد أن أقفلت مصر قناة السويس في وجهها.
أما
أميركا، كما عواصم عربية رئيسية، فلا ترى في سوريا إلا أولوية معالجة للوجود
الإيراني، بمعزل عن المصير الشخصي لبشار الأسد، وهو ما يريح حركة موسكو ويوسع مجال
مناورتها السياسية.
يعرف
الرئيس بوتين أن أي حل سياسي في سوريا غير ممكن من دون واشنطن، ويعرف أن واشنطن لن
توافق على حل سياسي لا يتضمن خروج إيران من سوريا، ما يعني أن دون ذلك ستجد موسكو
نفسها في سوريا مستنزفة في إدارة ساحة صراع معقدة ومتغيرة على الدوام، من دون أي
أفق استقراري يمكن تقديمه كإنجاز روسي على المسرح الدولي!
كل
هذه الحسابات المتناقضة تتيح مجالاً ما لبشار الأسد المتهالك، أن يلعب عليها؛ يعرف
حاجة موسكو إليه وإلى رمزيته كرأس للنظام، لكنه يقاوم الضغوط الروسية عليه باللجوء
المتكرر إلى إيران، ويفعل العكس مع إيران كلما زادت هي الضغوط عليه. ما زال الأسد
يتهرب من المبادرة الروسية لعودة النازحين ويتعمد التأخير في كل الإجراءات
المطلوبة من جانبه لوضعها موضع التنفيذ كإصدار قانون للعفو العام مثلاً، وما زال
يمانع عبر الصوت الإيراني ضمن مجموعة آستاني الانتقال إلى عملية دستورية تُجري
جراحة عميقة في توازنات النظام وتضع آلية جديدة لصناعة القرار السياسي.
في
هذا السياق يلعب مشهد «التبادل» المهين وغير المتكافئ دوره في المزيد من استنزاف
هيبة الأسد وإخضاعه وتبديد قدرته على اللعب على التناقضات والتذاكي على الإرادة
الروسية. وفي الوقت نفسه يوحي هذا «التبادل» بأن الأسد مستعد حتى لتقديم كل «رفات
نظام الأسد» إلى تل أبيب إذا كان العائد المضمون روسياً أن يبقى لهذا الرفات شاهد
قبر في القصر الرئاسي السوري، اسمه استمرار النظام ولو إلى حين.
سمعت
من أحد عتاة الموالين للنظام السوري قبل فترة رأياً يقول: إنه لم يبقَ للأسد من
سبيل إلا توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل لضمان بقائه.
حتى
في هذه الحالة أجد من الصعوبة بمكان أن يبقى الأسد، لأن كل اتفاقات السلام لا تلغي
حقيقة بسيطة مفادها أن هذا النظام يعادي الجزء الأكبر من شعبه معاداة علنية.
ربما
هي آخر وظائفه المطلوبة روسياً، توقيع سلام مع إسرائيل، للتخفيف عمّن سيرثه، وربما
هي واحدة من الأدوات الضرورية لإخراج إيران من سوريا. كيف سترد إيران؟ للحديث صلة.
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية