اتهام
المقاومة الفلسطينية بالتبعية لإيران ليس أمرا جديدا.. الذين يرمون هذه التّهمة على مقاومة الفلسطينيين، لا يهمّهم أي توضيح لطبيعة العلاقة التي تجمع المقاومة الفلسطينية بإيران، كالقول إنّ انحصار دعم المقاومة الفلسطينية بإيران، إدانة للمنظومة العربية كلّها، لا للمقاومة الفلسطينية التي تفعل واجبها بالبحث عن أيّ مصدر يغذّي قدراتها.
لماذا لا تهمّهم هذه الإدانة، ولا تحمرّ وجوههم حين مجابهتهم بها؟! لأنّهم بالفعل لا يرون أيّ معركة مع "
إسرائيل"، إلا معركة
إيرانية. لا أودّ القول إنّ هذه دعاية مجّانية لإيران، وتشريف لها؛ من حمقى يقولون إنّ معركتهم الوحيدة في الوجود معها. فالأمر من هذه الحيثية لا يهمّهم أيضا، طالما أنّهم يجدون أنفسهم في خندق الإسرائيلي ضدّ مقاومة غزّة، باعتبار هذه المقاومة "بيدقا إيرانيّا" كما يقولون، وإن كانت الحقيقة أبعد من ذلك وأعمق، بعدما أحاط بهم الإسرائيلي في قبضته، فأظهروا له إخلاصا فاق توقّعاته!
هذا ليس اتّهاما مضادّا، وإنما هو إعلانهم الصريح، الذي يُستغنى به عن أيّ اتّهام أو جهد لقراءة ما خلف السطور. فالسطور تعلن عن نفسها، بقبحها المجرّد من أي زينة، والقبضة الإسرائيلية ظاهرة، والعبيد داخلها صُرحاء في مواقفهم. فإن قال بنيامين نتنياهو إنّ "داعش" والمقاومة الفلسطينية وجهان لعملة واحدة، قالوا الشيء نفسه، وقلبوا الصورة بالكامل، وزعموا أنّ سلوك المقاومة الفلسطينية في غزّة "ردّ إيراني" على ما تعانيه إيران من حصار يتفاقم، فـ"بعدما حرّك الإيرانيون بيدق البغدادي أمس، حرّكوا بيادق غزّة اليوم"!
لم تعد المشكلة مع هؤلاء في إعادة تدويرهم للنضال الفلسطيني، بشطب الذات الفلسطينية، وإحلال الذات الإيرانية مكانها، في تطابق تام مع الدعاية الصهيونية التاريخية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". فالذي يقاتل ليس الفلسطيني على أرضه، وهو يكابد
الاحتلال والحصار والقتل اليومي، وإنّما إيران، ولكن "بدم غيرها"، وهذا الدم مبهم لا يحيل إلى شعب مناضل، وإنّما إلى إرادة من خلف الحدود!
ليست المشكلة هنا، بالرغم مما في هذا التصوير للصراع من بذاءة مغرقة في البشاعة، وإنّما في النفي الكامل للمسؤولية الإسرائيلية عن أي حدث تعالجه المقاومة بالسلاح، فلا "إسرائيل" أصل الموضوع بكونها دولة احتلال، ولا هي أصل الموضع بكونها تُطْبِق الحصار على غزّة، ولا هي أصل الموضوع بكونها من يبدأ باستهداف الفلسطينيين وقتل المدنيين، كما حصل بالفعل في المواجهات الأخيرة.
ماذا على الفلسطينيين أن يفعلوا وقد بدأت "إسرائيل" بقتل المدنيين في غزّة، ورفضت تنفيذ التزاماتها تجاه التفاهمات التي أبرمتها مع الفلسطينيين في غزّة بوساطة مصريّة؟! لا شيء، سوى معالجة معاناة غزّة بـ"تفاهمات سياسية في إطار اتفاق سلام"، لا أن تطلق صواريخ "التنك" على "إسرائيل"! فلنتخيل هذه البذاءة بصياغة أخرى: ليست المشكلة في الإسرائيلي الذي فرض المعاناة على غزّة ابتداء، بل في الفلسطيني الذي لا يعقد معه اتفاقيات سلام!
صاحب هذا الكلام، إعلامي لبناني يشتغل في خدمة سياسات دول عربية تمُطر بعضَ العربَ بصواريخها، أغفلنا اسمه لأنّه نموذج لمجموعة كثّفت نشاطها المعادي للفلسطينيين أثناء المواجهات الأخيرة في غزّة، فهو يُعبّر عمن يخدمهم أكثر مما يُعبّر عن نفسه.
وكما سلف، سوف نُخرج من حساباتنا أن نقول له: لماذا لا تمدّ الدول التي يخدمها المقاومةَ الفلسطينية بصواريخ أكثر فاعلية من صواريخ "التنك" التي تصنعها المقاومة بنفسها؟! فالإجابة معروفة: الخندق واحد، أو إنّهم في قبضة صاحب الخندق، وإلا لما امتنع هذا الإعلامي عن إدانة "إسرائيل" في كلامه هذا المشار إليه، ولو بحرف واحد!
يذهب هذا الإعلامي إلى أكثر من ذلك، حينما لا يكتفي بإدانة قوى المقاومة التي يعدّها بيادق إيرانية، وإنما يدين الفلسطينيين في الجملة، المقاوم منهم، والعامل بنصائحه. لذلك، ونحن في سياق دفاعنا عن المقاومة الفلسطينية، لن نضطر إلى إثبات أنّ السياسات الإسرائيلية هي سبب فشل "المشروع السلمي".
ففشل هذا المشروع، بحسبه، كما في واحدة من تغريداته، سببه الفلسطينيون وحدهم، بكل تشكيلاتهم؛ قادة الثورة الفلسطينية، الذين صاروا في وقت لاحق قادة للسلطة الفلسطينية ولـ"فريق السلام" الفلسطيني، و"تجار" الثورة في طهران ودمشق، على حدّ سواء، بينما لن تجد إدانة واحدة لـ"إسرائيل". وعلى هذا فقادة السلطة (تخيّل!) هم سبب فشل "مشروع السلام الذي قدّمته قوى الاعتدال العربي لفلسطين"!
مرّة أخرى، مشروع السلام، بحسب هذا الإعلامي، مقدّم من قوى "الاعتدال العربي"، وسبب فشله الفلسطينيون في جملتهم، إمّا بسبب انعدام رؤية قادتهم، أو ارتهان بعض قواهم لطهران ودمشق، ولكنّه أبدا لا يشير إلى "إسرائيل" بأدنى مسؤولية!
هل يعني ذلك أنّ الدولة المحتلة قوّة سلام أو قوّة اعتدال من جنس قوى "الاعتدال العربي" التي يتحدث عنها، أم أنّ مشروع قوى "الاعتدال العربي" مشروع إسرائيلي، فلن تحرص "إسرائيل" إلا على نجاحه؟!
ما هو المشروع الذي تحرص "إسرائيل" على إنفاذه، ويعارضه الفلسطينيون كلّهم، في حين تدعمه أنظمة عربية حليفة لترامب، الداعم الأكبر لسياسات بنيامين نتنياهو؟! لا شيء، سوى مشروع تصفية القضية الفلسطينية، المعروف بـ"صفقة القرن"!
بالرغم مما يسببه هذا الانهيار من حزن وأسف، إلا أنّ الانكشاف مفيد، وإن كانت رداءة الإخراج والخطاب مذهلة، ولعلّها مفيدة أيضا!