بات واضحا أن ثمة توجهات رسمية في عدة دول عربية وإسلامية ترمي إلى تقديم مذهب الأشاعرة والماتريدية على غيره من المذاهب والاتجاهات الدينية الأخرى، وهو ما تعمل المؤسسات الدينية الرسمية على إشاعته بخطط وبرامج مدروسة.
ووفقا لمراقبين، فإن ذلك التوجه يأتي في سياق مواجهة فكر الغلو والتطرف، باعتبار المذهب الأشعري (ومعه الماتريدي) من أوسع المذاهب العقائدية انتشارا واستقرارا، وينتسب إليهما عامة أتباع المذاهب الفقهية المشهورة كالشافعية والحنفية والمالكية وبعض الحنابلة، ولا يكفران أحدا من أهل القبلة كما نص على ذلك أبو الحسن الأشعري الذي يُنسب المذهب إليه.
من جهته، أرجع الكاتب والمحلل السياسي الأردني، الدكتور حسين الرواشدة ذلك التوجه "إلى دوافع سياسية تظهر في توجهات تلك الدول وسياساتها الرامية إلى "إقصاء الإسلام (الحركي) بشقيه الإخواني والسلفي، وإحلال التدين الصوفي بتوجهاته العقائدية الأشعرية والماتريدية، والمذهبية الفقهية محل تلك التيارات والاتجاهات الدينية".
ولفت الرواشدة إلى أن "الرؤية الكامنة وراء ذلك التوجه تهدف إلى توحيد المجتمعات العربية على مذهب ديني محدد تتبناه المؤسسة الدينية الرسمية، ما يعني قولبة الحالة الدينية في قالب محدد يسهل توجيهه، والسيطرة عليه".
وقال الرواشدة في حديثه لـ"عربي21": "ثمة رغبة رسمية عربية تدفع باتجاه حذف كل ما يتعلق بالإسلام "الحركي" وتجاوزه، سواء كانت له مشاركات سياسية، أو له فاعلية دعوية وتعليمية وخيرية في المجتمعات العربية".
وأضاف: "نعم ثمة توجهات لإقصاء التيار السلفي بوجه عام، خاصة الحركي والسياسي منه، أما التيار السلفي العلمي فعليه أن يتكيف مع التوجهات الجديدة، ويبتعد عن منهجية احتكار الحق، واعتبار نفسه أتباع الفرقة الناجية".
اقرأ أيضا: بعد اعتذار القرني.. بماذا خالفت "الصحوة" الوهابية الرسمية؟
وذكر الرواشدة أن طبيعة علاقة الفقيه مع السلطان في ظل المذهبية الأشعرية تشي بحالة من الاستقرار التام، وتضمن تبعية الفقيه للسلطة السياسية، من غير تخوف من أي مظهر من مظاهر التمرد على السلطة، على عكس بعض التجارب الأخرى القلقة".
بدوره رأى الأكاديمي الفلسطيني والباحث الإسلامي، مالك عبد المجيد الجيلاني أن "دوافع الدول في تقديم أي مذهب، سواء المذهب الأشعري أو غيره هي ذاتها منذ القديم وإلى يوم الناس هذا، ولا جديد في ذلك".
وجوابا عن سؤال "عربي21" حول أسباب ودوافع توجه بعض الدول لتقريب الأشاعرة والماتريدية وإقصاء السلفية، قال الجيلاني: "في الحقيقة لا أرى ثمة فروقا جوهرية بين نسق الأشاعرة ونسق السلفية في التدين، ولا من حيث التعامل مع الآخر، ولا في منهجية التفكير، أو الانخراط في قضايا الأمة الكبرى وهمومها المصيرية".
وأضاف: "ومع كون كلتا المدرستين تُبدع إحداهما الأخرى، وتُفسق إحداهما الأخرى، بل وتُكفر في كثير من الأحيان إحداهما الأخرى، فإن كل واحدة منهما تحتكر لقب (أهل السنة) أو (أهل السنة والجماعة) وترى أنها أحق به من الأخرى".
وتابع: "ولعل طبيعة العلاقة المشحونة بالخصومات بين المدرستين، هي التي دفعت بعض الدول في الآونة الأخيرة لتقديم الأشاعرة في سعيها لمواجهة السلفية، ومحاولة إقصائها، من أجل استقرار الحكم فيها، وإضفاء المزيد من الشرعية عليها".
وأشار الجيلاني إلى أن "أقصى ما يتمناه (الأشاعرة والماتريدية) هو الاعتمادات الهائلة التي حظي بها (السلفيون) طيلة عقود مضت بسبب عطايا البترودولار، فلو تغيرت المعادلة لأضحى المال واحدا، والجهة المنفذة مغايرة، وهو ما بتنا نسمعه ونراه في الأعوام الأخيرة، وفي المؤتمرات المنعقدة هاهنا وهاهناك".
وقلل الجيلاني من قيمة أية إضافات حقيقية يمكن للأشاعرة أن يضيفوها للحالة الدينية، أو فعل وإنجاز ما عجز السلفيون عنه، مرجعا ذلك إلى استقرار الأشاعرة وعموم أهل السنة على الخضوع للحاكم الجاهل الباغي، وتحريم الخروج عليه، لذا فإن أمتنا عاجزة عن اجتراح أي منهاج سياسي إسلامي غير الذي كان".
وواصل حديثه بالقول: "في ظل الأحكام الفقهية السائدة والمقررة بشأن كيفية وآليات اختيار الحاكم، وكيفية عزله وحدود صلاحياته، فنحن سننتظر ألف سنة أخرى قادمة في خداع أنفسنا، والكذب على العامة، والتلبيس عليهم دون تقديم أي جديد، أو أي إضافة حقيقية للحالة الدينية الإسلامية، سواء تم تقديم المذهب الأشعري أو غيره".
اقرأ أيضا: "ما بعد الحركات الإسلامية".. هل الساحة متعطشة لرؤى جديدة؟
وفي السياق ذاته ذكر الأكاديمي والباحث المصري، معتز شطا أن ثمة دوافع لتقديم بعض الدول للمذهب الأشعري في الوقت الراهن منها "ضغوطات دولية تمارس على بعض الدول العربية التي تتبنى الاتجاه السلفي في نسختها التي أطلق عليها بعض خصومها: الوهابية، لاتهامها بأنها تمثل الإطار المرجعي الفكري الديني المسؤول عن إفراز الحركات المتشددة بدءًا من القاعدة ووصولا إلى داعش".
وأردف قائلا لـ"عربي21" يضاف إلى ذلك "مراجعات فكرية ذاتية أعقبها اقتناع بوجود حاجة إلى مرجعية فكرية بديلة داخل المنظومة السنية ذاتها". على حد قوله.
وأنهى شطا حديثه بالتنبيه على أن توجه بعض الدول لتقديم المذهب الأشعري في سياق محاصرتها للتيار السلفي إنما يأتي في ظل تنازع الاتجاهين التاريخي والحالي على الاستئثار بمصطلح "أهل السنة والجماعة" فكل فريق منهم يدّعي أنه الممثل الصحيح لأهل السنة، مع سعي كل منهما لإقصاء الآخر بدرجات متفاوتة".
يُذكر أن الأشاعرة مذهب عقائدي، ينسب إلى أبي الحسن الأشعري، المتوفى سنة (324ه)، ظهر المذهب الأشعري في القرن الرابع وما بعده، وله مقولات في مسائل الاعتقاد كالصفات الإلهية، وأفعال الله الاختيارية، نشأت خصومات ومساجلات بينه وبين الاتجاهات الإسلامية الأخرى كالمعتزلة والسلفية، وهو المذهب العقدي الذي يتبناه الأزهر في مصر، وجامع الزيتونة في تونس، وكثير من الجامعات والمعاهد والمؤسسات الدينية في العالم الإسلامي.
ما حقيقة انتشار التطرف بالسجون المصرية.. شهادات من الداخل