بعد إعلان نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي تكرس دستوريا هيمنة السيسي على السلطات الثلاث في
مصر وتعسكر المجتمع، بل والحياة في مصر، أطلق السياسي البارز د. أيمن نور، عبر موقع "
عربي21"، مبادرة للحوار الوطني، أراها تأخرت كثيرا.
توجه الرجل بطرح اسم 100 شخصية وطنية داخل وخارج مصر للبدء في ترتيب المعارضة المصرية، وبداية لاصطفاف حتمي أصبح لا بديل عنه بين فرقاء
الثورة المعارضين لحكم العسكر شكلا وموضوعا، والرافضين للتعديلات الدستورية التي تأخذ مصر للمجهول.
ردود الفعل بشأن المبادرة وسط النخب تراوحت بين الترحيب والتأييد والتخوين والرفض، وكان ذلك واضحا من قبل بعض الأسماء التي تضمنتها الدعوة، أو حتى من خارج الذين لم تشملهم الدعوة. لكنها وعلى النقيض من ذلك، لاقت قبولا (وإن كان محدودا) في الشارع المصري المتعطش لاصطفاف طال انتظاره من قبل نخبة فاقدة للأهلية القيادية، فضلا عن المسؤولية التاريخية، وزادها الشقاق بُعدا وفاقم الخلاف الهوة بينها.
الرافضون عللوا رفضهم بأسباب تعتبر معقولة إذا نظرنا لهذه الدعوة بعين واحدة، ولكن إذا نظرنا بالعينين، سنجد بين السطور كلاما، وبين الكلمات رسائل لعل البعض منا فطن إليها، ولعلها غابت في زحمة
المبادرات عن البعض الآخر. وفي هذه الأسطر أتمنى أن أستطيع توضيح رؤيتي الشخصية وقراءتي لهذه المبادرة، وليس معنى ذلك أنني لا أملك ملاحظات على المبادرة، ولكن لكل مقام مقال.
تعرضت المبادرة لهجوم شديد من كل الأطراف لوجود أسماء شخصيات ما زالت في مصر، ولكن المفارقة التي لم يلتفت إليها أحد؛ أن هذه الشخصيات قد جاهرت بمعارضتها للسيسي من داخل مصر مرارا وتكرارا، هناك من دفع ثمن ذلك وزج به في السجن، ولم يزحزحه هذا التنكيل عن مبدئه وإيمانه في ضرورة رحيل السيسي، واستمر في دفع الثمن راضيا عن قناعة؛ فما يضيره إذا أعلن وهو في السجن عما ذهب بسببه إلى السجن؟ بل لعل هذه المبادرة تعطيه فرصة جديدة في كفاحه وتشد من أزره.
وشملت أسماء أخرى من مصر أيضا يجاهر أصحابها بمعارضتهم بخاصة للتعديلات الدستورية فكانت هذه المبادرة كاشفة لورقة التوت التي تغطوا بها في محاولة منهم للعب دور المعارضة لتصدير صورة مصطنعة لديمقراطية زائفة، وأعطوا للسيسي صك الديمقراطية المزعومة لتصدير هذه الصورة للغرب، فكان ولا بد من نزع ورقة التوت عن هؤلاء حتى يعرف الجميع حقيقة معارضتهم للفاشية العسكرية، أو يُكشف عن موالاتهم لهذه الفاشية بشكل علني، وهذا ما حدث بالفعل.
شخصيات أخرى خارج مصر لم تتعاط مع المبادرة بشكل سريع، رغم خطورة الموقف الذي أوصلتنا إليه سلطة السيسي الفاشية؛ لأسباب مختلفة، أهمها على الإطلاق عدم وضوح الصورة لديها، أو خوفها على الامتيازات التي تحصل عليها في الخارج بمعارضتها المحدودة للسيسي وثقتها بأن لا حل في مصر الآن.
وكثيرون تعاطوا إيجابيا مع المبادرة، وأعلنوا قبولهم لتحمل المسؤولية الثقيلة أمام الله وأمام الجميع؛ لأنهم يرون ما ذهبت إليه مصر من تدهور في جميع النواحي على يد السيسي وسلطته العميلة للصهيونية، كما أنهم يؤمنوا بحتمية الذهاب إلى
الحوار، فأرادوا أن يعجلوا به، بخاصة بعد اعتماد التعديلات الدستورية التي تشكل عبئا جديدا على كل نواحي الحياة في مصر.
المبادرة في كينونتها المئوية لا ترتبط بهذا العدد، ولكنها أعطت ولأول مرة مكونات المجتمع المصري وشرائحه المختلفة صفة السياسي، فمثلت كل التيارات السياسية في مصر والأيديولوجية، وشملت أيديولوجيات مصر المتنوعة، وكذلك جمعت الطبقات العمرية المتفاوتة لكل النشطاء، فتواجدت أجيال تستطيع أن تثري الوسط الفكري الثوري بين الأصالة والحداثة، وشملت الوجود الأصيل للمرأة المصرية التي تحملت عبئا كبيرا في كفاحها الثوري، وغيرها من التقسيمات المتعددة للشعب المصري. وفي النهاية أرى أن هؤلاء المئة هم نواة حققت خلطة تعكس كل مكونات الشعب المصري بشكل أو بآخر.
المبادرة أعلن عنها في وقت حاسم، بعد سقوط آخر أمل لثورة 25 يناير، متمثلا في التعديلات الدستورية التي منعت التداول السلمي للسلطة في مصر، والعودة لتفصيل الدستور وفقا لأهواء السلطة العسكرية الفاشية التي نصبت نفسها سيدا للشعب المصري، بعد استقلال مصر عن بريطانيا عام 1952 مباشرة وحتى اللحظة.
وهنا وضعت المبادرة الجميع أمام مسؤولياته التي يجب عليه فرضا وليس تطوعا تحملها، إذ إن من واجب الجميع العمل الفوري والجدي من أجل وقف بيع مصر في المزاد العلني، ونحن في معمعة الاختلاف والخلاف والشرعية واللاشرعية.
مصر الوطن الذي تأصل عشقها في وجدان كل المصريين تستحق منا أن نتنازل لبعضنا البعض، وأن نضع كل الخلافات تحت أقدامنا وندوس عليها، لنعبر بمشروع ينتشل مصر من مستنقع السقوط إلى الهاوية.. وثيقة عمل تجعل من اختلافاتنا أصلا لنجاحنا في استرداد ثورة دُفع ثمنها دماء وأشلاء، وجراح وآلام لم تجف حتى اليوم في قلوبنا.
ليس المهم من الذي دعا للحوار، بل الأهم أن نبدأ الحوار.. ليس المهم من الذي ذكر اسمه في الدعوة فكلنا معنيون ومازالت الصفحة مفتوحة لكل الراغبين في صنع النجاح ليس من أجل أنفسهم أو غيرهم، بل من أجل مصر، من أجل شهداء عاهدناهم على محاسبة قاتليهم، من أجل آلاف المعتقلين الذين ينكل بهم لحبهم لمصر، ومن أجل ملايين يعيشون كالأموات، فلا عمل ولا صحة ولا تعليم ولا حياة لهم ولأبنائهم.. كل هؤلاء انتظروا سنين طويلة، ولم يدع أحد لأي حوار وطني، أوحينما دعا أحدهم إلى الحوار، انفك الجميع واستل قلمه ليبحث عن عيوب هذه الدعوة وهو جالس في منزله، يشاهد التلفاز؟! بدلا من دعم الدعوة بأفكار تزيد من فرصة نجاحها.. هذا النوع من النكايات يجب أن نتوقف عنه، فلا رفاهية لنا في الوقت أبدا، فنحن في حاجة ماسة لأن نخرج جميعا متحدي الأيدي والطريق، وأن نكون سدا منيعا في وجه هذه السلطة الفاشية وطريق ممهد لبعضنا البعض.
تثبت كل التجارب أنه ليس بوسع أحد، أي أحد، أيا كانت قدراته وإمكانياته أن يقصي الآخر وبخاصة في مصر، لا سبيل لنا إلا أن نجلس ونتحاور ليس من أجل الحوار، بل من أجل تحديد الطريق والآلية التي نستطيع بها وقف السيسي بطموحاته الفرعونية، وعمالته الصهيونية.