عقبة بن عامر الجُهَني؛ صحابي جليل شرفت أرض
مصر بقدومه. تحدث عقبة رضي الله عنه عن نفسه قائلا: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا في غنم لي أرعاها، فتركتها ثم ذهبت إليه، فقال: بايعني، فبايعته على الهجرة. خدم عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان يأخذ بزمام بغلته ويقودها في الأسفار، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة وخمسين حديثا، معظمها رواها عنه المصريون.
كان عقبة رضي الله عنه قارئا فقيها عالما بالفرائض، وشاعرا فصيح اللسان، وقائدا من قادة الفتح المرموقين، كما كان واليا من ولاة الإسلام المعدودين، فقد انشغل طيلة حياته بأمرين لا ثالث لهما، هما: العلم والجهاد، وانصرف إليهما بروحه وجسده. وكان من أحسن الناس صوتا بالقرآن، حتى َأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له يوما: اعْرِضْ عَلَيَّ شيئا من كتاب الله يا عقبة، فَقَرَأَ عليه، فَبَكَى عُمَرُ حتى بلّت دموعه لحيته.
شهد عقبة بت عامر رضي الله عنه غزوة أحد مع رسول الله، كما شهد ما بعدها من الغزوات، وكان أحدُ الكماة الأشاوس المغاوير، الذين أبلوا يوم فتح دمشق أشد البلاء وأعظمه، فكافأه أبو عبيدة بن الجراح على حسن بلائه بأن بعثه بشيرا إلى عمر بن الخطاب في المدينة ليبشره بالفتح، فظل ثمانية أيام (من الجمعة إلى الجمعة) يواصل السير ليل نهار دون انقطاع؛ حتى بشر الفاروق عمر بالفتح العظيم.
كما كان رضي الله عنه؛ أحد قادة الجيش الذي فتح مصر، فكافأه معاوية بن أبي سفيان بأن جعله واليا عليها سنة 44هـ، فسار فيها أحسن سيرة، ودامت ولايته على مصر سنتين وثلاثة أشهر.
مرِض سيدنا عقبة بن عامر الجهني مرضَ الموتِ، وهو في مصر، فجمع بنيه وأوصاهم، فقال: يا بني، أنهاكم عن ثلاث، فاحتفظوا بهن، لا تقبلوا الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا من ثقةٍ، ولا تستدينوا، ولو لبستُم العباءة، ولا تكتبوا شعرا، فتشغلوا به قلوبكم عن القرآن.
ولما مات سنة 58هـ، دفنوه في سفح المقطم، ثم انقلبوا إلى تركته يفتشونها، ماذا ترك؟ فإذا هو قد خلَّف بضعا وسبعين قوسا، مع كلِّ قوسٍ قرنٌ ونبال، وقد أوصى بها أن تجعل في سبيل الله.
مسجد عقبة بن عامر
أما مسجده الذي سُمي باسمه؛ فيحمل الرقم 535 في تسجيلات وزارة
الآثار المصرية، ويقع في القرافة الكبرى (قرافة سيدي عقبة بن عامر) جنوبي جبانة الإمام الشافعي، وهو مسجد صغير أنشئ على شرف قبره رضي الله عنه، وقد قام بإنشائه والي مصر العثماني محمد باشا سلحدار سنة 1066هـ.
والمسجد مستطيل الشكل؛ تتقدمه ردهة تقع داخل باب المسجد الرئيس، والذي يقع في الواجهة الغربية. والمدخل عبارة عن حجر معقود؛ بداخله الباب المعقود بعقد مقوس. والمسجد من الداخل عبارة عن رواقين بينهما بائكة على ثلاثة عقود على عمودين مثمنين من الحجر، وفي القسم الجنوبي الغربي منه قبة تحوي ضريح سيدي عقبة رضي الله عنه، عليه مقصورة خشبية وأمامه شاهد من الرخام منقوش من الداخل برسوم زيتية تحمل آية الكرسي، وعلى الوجه الآخر منقوش ما نصه: "هذا مقام العارف بالله تعالى الشيخ عقبة بن عامر الجهني الصحابي رضى الله عنه. جدد هذا المكان المبارك الوزير محمد باشا سلحدار دام بقاه في سنة ست وستين وألف".
وهذه القبة من أجمل القباب التي أنشئت في العصر العثماني وأكبرها؛ فهي مضلعة من الخارج، أما رقبتها فقد كسيت ببلاطات القيشاني، وسقف المسجد من الخشب المحلى بزخارف ملونة. وللمسجد منارة عثمانية رشيقة، وهي مجاورة للباب؛ ولها قاعدة مربعة، تتحول إلى الشكل المضلع كغيرها من المنارات العثمانية. وللمنارة شرفة واحدة وخوذة مخروطية، وهي المنارة العثمانية الأكثر ظهورا بالقرافة الآن.
وملحق بالمسجد مبانِ أخرى، أنشأها أيضا والي مصر محمد باشا سلحدار؛ منها الزاوية التي جعلها مكتبا لتعليم اليتامى القراءة والكتابة وحفظ القرآن، ومنها السبيل الذي كُسيت أرضيته بالرخام المتعدد الألوان، ويوجد للسبيل صهريج يقوم على أربعة عقود وتتوسطه قبة وبيارة، وبجانب البيارة حاصل يصل منه الماء إلى حوضي المزملتين؛ الكبرى منهما فرشت أرضيتها بالرخام الملون النفيس، والأخرى يجرى إليها الماء في مجرى من الرصاص.
رحم الله الصحابي الجليل عقبة بن عامر، وأعاننا على الحفاظ على هذا المسجد الذي يحمل اسمه ويضم رفاته.