ترتفع درجات الحرارة في
تونس اليوم لتبلغ مستويات قياسية مع دخول فصل الصيف، وتنتشر الحرائق في كل مكان من أراضي البلاد الفلاحية، بفعل فاعل، ضمن ما سماه التونسيون بسياسة الأرض المحروقة؛ لتدمير المحاصيل الزراعية لصغار الفلاحين. لكن الحرارة الحقيقية هي تلك التي ترتفع في دكاكين الأحزاب وحوانيت تجار السياسة؛ الذين استتب لهم الأمر بعد انحسار المدّ الثوري، وبعد أكثر من ثماني سنوات عجاف نجحت خلالها الدولة العميقة في تأزيم الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، من أجل منع المسار الانتقالي من بلوغ منهاه.
النظام القديم يعود من جديد
قد لا يختلف اثنان في تونس حول النسَب الحقيقي لمجموعة من الأحزاب التي تنسب نفسها إلى التقدمية والحداثة، وهي تتحرك تحت نفس السقف الذي كان يؤوي النظام الاستبدادي القديم. إنها نفس واجهة النظام الدموي الذي حكم تونس بالحديد والنار منذ أكثر من نصف قرن من الزمان. فحزب نداء تونس الذي نجح في الوصول إلى السلطة وتقاسمها مع التيار الإسلامي، ممثلا في حزب حركة
النهضة، ليس في الحقيقة إلا الوريث الشرعي لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي، وهو حزب الرئيس الهارب
بن علي؛ الذي هو بدوره الوريث الشرعي للحزب الدستوري التونسي، أي حزب المستبد الأول بورقيبة.
الأحزاب الاستبدادية تتناسل في تونس، وليس حزب نداء تونس هو الحزب الوحيد على الساحة الذي يمثل المنظومة القديمة، بل إن أحزابا أخرى رأت النور بعد
الثورة، وصارت هي الأخرى حاملة للواء المنظومة القديمة تحت مسميات جديدة، مثل مشروع تونس وتحيا تونس وغيرها. تمثل هذه الأحزاب جميعها روافد للدولة العميقة التي لا تزال تتحرك في مهد الثورة، وهي تحاول بكل الطرق قضم ما يمكن من المساحات المتاحة التي تسمح لها باستعادة المجال القديم كاملا غير منقوص. لا تضع المنظومة الاستبدادية كل بيضها في سلة واحدة، بل توزع الفواعل على الساحة السياسية والحزبية؛ من أجل إيجاد بدائل جاهزة في حال سقوط أحد الفواعل أو تقهقره.
لكن هذا التنوع يمثل من جهة أخرى دليلا على التصدع الكبير الذي تعاني منه المنظومة القديمة، وهي عاجزة عن توحيد صفوفها لمواجهة خصومها السياسيين. النظام القديم نظام انتهازي بامتياز، وقد نجح عبر عقود في حياكة شبكة كاملة من أصحاب المصالح واللصوص والفاسدين الذين راكموا الثروات؛ عبر مسارات النهب المنظم والسطو المقنن على ثروات البلاد ومواردها. المصلحة المباشرة والنفع السريع والإثراء غير المشروع هو ما يجمع عناصر النظام القديم، وهو كذلك ما يفرقهم، رغم ارتباطهم المباشر بقوى خارجية وسفارات أجنبية؛ هي من يصوغ في الحقيقة أولويات هذه الأحزاب، وهي من يسطر برامجها وخططها ويمول مشاريعها واجتماعاتها ومؤتمراتها.
كيف عاد النظام القديم؟
من الطبيعي جدا، بل ومن المنتظر كذلك أن يعود النظام القديم بعد سقوط الواجهة مباشرة بعد الثورة، وهو ما حصل مع كل الثورات عبر التاريخ، حيث لا يتبخر النظام القديم تماما بمجرد رحيل رأس النظام. لكن في الحالة التونسية استفادت الدولة العميقة من جملة من العناصر التي سمحت لها بتصدر المشهد من جديد، والتحول إلى لاعب أساسي في المشهد الذي أعقب الثورة مباشرة.
لعل أول هاته المنافذ التي تسللت عبرها الدولة العميقة؛ إنما تمثلت في غفلة التيار الثوري والقوى المحسوبة عليه عن قدرة رجال المنظومة القديمة على العودة إلى المشهد، حيث اكتفت القوى التي أمسكت زمام المرحلة الانتقالية بالنقد اللاذع لرجال بن علي، وكشف جزء من جرائمهم دون محاسبتهم محاسبة حقيقة عما ارتكبوه من جرائم طول عقود طويلة. لم تمنع الثورة كذلك رجال النظام القديم من الترشح ومن تكوين الأحزاب ومن العمل السياسي، ومن المشاركة في الحياة السياسية الجديدة بشكل عام.
لكن أهم المنافذ التي عبرت من خلالها الدولة العميقة إنما تمثلت في المرفق الإعلامي الذي بقي تقريبا على حاله بعد الثورة، ولم يتغير إلا تغيرا طفيفا. كانت المنصات الإعلامية لقوى الثورة المضادة منابر نشطة في ضرب المسار الثوري، وفي تأزيم الواقع اليومي للتونسيين؛ بشكل نجح معه في إخماد الوهج الثوري، بل وفي شيطنة الثورة وتمجيد النظام القديم؛ عبر اللعب على وتر الأمن والأمان، وترهيب الناس من الإرهاب والفوضى والاقتتال والحرب الأهلية التي تتربص بهم.
شارك الجميع في هذه الجريمة، وعلى رأسهم التيار الإسلامي الذي اختار قادته وزعماؤه المصالحة مع جلاد الأمس، ثم تحالفوا معه في مرحلة تالية بحجة الواقعية السياسية والحنكة الحزبية، وغيرها من الأعذار الواهية التي ثبت اليوم عقمها وضررها القاتل على المنجز الثوري برمته.
المنعرج القادم
لا يتردد أنصار النظام القديم اليوم في لعن الثورة وفي شيطنتها، بل وفي تهديد الثوار أو المحسوبين عليهم بالانتقام والثأر منهم حال فوزهم بالانتخابات القادمة. صحيح أن هاته القوى لم تفقد مركزها في كل مفاصل الدولة والإدارة التونسية، لكنها نجحت في الحصول على دعم سخي من الدول العربية المعادية للثورات، وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر السيسي في مرحلة تالية.
بفضل هذا الدعم الإقليمي، وكذلك الإسناد الدولي، تحولت الثورة المضادة إلى قوة ضاربة لا يمكن تجاهلها في المشهد السياسي التونسي، رغم أنها لا تملك قاعدة شعبية كبيرة على الأرض. ومن جهة مقابلة، لم تتمكن القوى الثورية، بما فيها القوى الإسلامية، من تجاوز خلافاتها ومن القطع مع الصراع على القيادة والزعامة، بل راكمت الأخطاء وراء الأخطاء في مرحلة دقيقة من عمر المسار الانتقالي.
يدرك قسم كبير من التونسيين اليوم أن أحزاب المنظومة القديمة ليست في الحقيقة إلا بالونات هواء قابلة للانفجار في كل حين، وأنها أقرب إلى العصابات منها إلى الأحزاب السياسية؛ بسبب من تسرب من ممارساتها وممارسات قيادييها في حق المال العام، وفي حق الدولة والمجتمع. لكن يبقى التساؤل قائما اليوم حول مخارج المرحلة القادمة التي صارت مرتهنة للسياق الإقليمي الساخن في الجوار الجزائري والليبي بشكل خاص.
لن يكون المخرج في تونس منفصلا عما ستؤول إليه الأوضاع في الجزائر وليبيا، وهما التجربتان اللتان ستحددان بشكل شبه نهائي مصير الثورة التونسية ومسارها، بقطع النظر عن الصراع الداخلي بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة.