مع قدرة الأغلبية الحاكمة في تونس على تمرير مشاريع قوانينها، حتى تلك المتعلقة بالقوانين الأساسية، تكثر التساؤلات المشروعة عن الأسباب التي تقف وراء تعطّل إرساء المحكمة الدستورية رغم انتهاء الأجل القانوني الذي حدده المشرّع. فرغم وجود الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، ورغم وجود المحكمة الإدارية المعروفة بحيادها ونزاهتها منذ عهد المخلوع، فإنّ الفراغ الذي نشأ عن عدم إرساء المحكمة الدستورية هو واقع يزيد من حدة الصراعات السياسية ويرسّخ حالة انعدام الثقة المتبادلة بين مختلف الفاعلين الجماعيين.
سؤال المحكمة الدستورية
للوقوف على وجه من وجوه الأزمة السياسية في تونس، يكفي أن نعلم أنّ الفصل 80 من القانون الأساسي عدد 50 لسنة 2015 مؤرخ في 3 كانون أول (ديسمبر) 2015 والمتعلق بالمحكمة الدستورية يقضي بأن "تنتهي مهام الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين والمحدثة بموجب القانون الأساسي عدد 14 لسنة 2014 المؤرخ في 18 أفريل 2014 بداية من تاريخ إرساء المحكمة الدستورية".
وقبل أشهر من الاستحقاق الانتخابي التشريعي والرئاسي، بل بعد أكثر من خمس سنوات من صدور هذا القانون الذي ينص في فصله الخامس على أن" تكون قرارات المحكمة الدستورية وآراؤها ملزمة لجميع السلطات"، مازلت المحكمة الدستورية مجرد مشروع عجزت كل التوافقات على إقراره كي يكون ضمانة حقيقية لنزاهة الانتخابات القادمة.
ممارسة رئيس الجمهورية لحق العرض على الاستفتاء سيكون تهديدا حقيقيا لإمكانية إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في موعدها
حجة تأخر تعديل القانون الانتخابي
ولكنّ ضعف حجة تأخر عرض مشروع تعديل القانون الانتخابي، لا يعني فقدانها أية مشروعية، بل يعني فقط ضرورة عضدها بحجج أخرى حتى تكون لها قيمة في بناء نقد قوي لإستراتيجيات المنظومة الحاكمة الهادفة إلى ترسيخ الوضع الحالي ومنع تغيير "التراتبيات" و"التسويات" السلطوية المتحكمة فيه.
بحكم هيمنة اللوبيات المالية والإعلامية المتضررة من تعديلات القانون الانتخابي، وبحكم قوة الاختراق الخارجي للحقل السياسي التونسي المتمثل خاصةً في جمعية "عيش تونسي" المرتبطة برجل أعمال فرنسي، كاد السجال العمومي حول التعديلات أن ينحصر في تلك الفصول التي تقضي على المستقبل السياسي لمالكي وسائل الإعلام أو لمن اتخذوا العمل الجمعياتي والخيري معبرا لدخول الحقل السياسي. فرغم أن التعديلات قد جاءت بنقاط مهمة تتصل بالذمة المالية والوضعية القانونية للمترشحين ـ أي منع أصحاب السوابق والمتهربين الضريبيين من الترشح، ورغم أن التعديلات جرّمت الدعوة للعنف والتمييز والتباغض بين المواطنين وتمجيد انتهاك حقوق الإنسان، فإن الإعلام العمومي والخاص لم يجد في ذلك كله ما يدعو إلى الاهتمام، فما بالك بالتثمين. وهو أمر مفهوم، خاصةً إذا ما تذكرنا أنّ أغلب المعنيين بهذه التعديلات هم من نجوم ذلك الإعلام والمؤثرين في توجيه نوايا التصويت لدى الناخب التونسي.
بعد فشل المجلس التأسيسي في تمرير قانون العزل السياسي للتجمعيين، وبعد إجماع كل النخب ـ يمينا ويسارا ـ على السماح لهم بتأسيس أحزاب تجمعية جديدة بقيادة حركة نداء تونس، كان قانون منع هؤلاء التجمعيين مؤقتا من عضوية مكاتب الاقتراع ضربا من ذر الرماد على العيون، أو ضربا من التشريع الشعبوي الذي يهدف إلى الانحناء أمام عاصفة اللحظة الثورية والتأقلم الصوري معها. ولذلك فإن سماح التعديلات الأخيرة للتجمعيين بعضوية مكاتب الاقتراع هو إجراء طبيعي ولن يكون الاعتراض عليه إلا ضربا من العبث أو المزايدة السياسوية الكاذبة.
أمّا تحديد عتبة 3% في الانتخابات التشريعية فإنه إجراء ملتبس ويمكن مقاربته من أكثر من زاوية. فإذا نظرنا إلى هذه العتبة من جهة تحجيمها لدور المستقلين والأحزاب الصغرى، فإننا سنعتبرها إجراءً عقابيا لكل من لا يمتلكون "ماكينات انتخابية" كبيرة، بما تتطلبه من دعم مالي وإعلامي، ولكن إذا ما نظرنا إلى العتبة من جهة حاجة الحقل السياسي إلى نوع من الاستقرار والتمركز حول أحزاب ذات قاعدة شعبية ممتدة وتمثيلية نيابية وازنة، فإنها تصبح نوعا من الضرورة التي ستنهي حالة التشرذم والانفلات السياسي المهيمنة على مراكز صنع القرار في تونس.
موقف الرئاسة
مهما كانت قوة رئاسة الحكومة والكتل البرلمانية التي تسندها في مجلس النواب، فإن الكلمة الأخيرة لاعتماد التعديلات التي أدخلت على القانون الانتخابي تظل عند رئيس الجمهورية. فالدستور التونسي يعطي لرئيس الجمهورية حق الرد، أو إرجاع القانون إلى المجلس النيابي لتعديله، كما يعطيه "خلال أجل الرد، أن يقرر العرض على الاستفتاء مشاريعَ القوانين المتعلقة بالموافقة على المعاهدات، أو بالحريات وحقوق الإنسان، أو بالأحوال الشخصية، والمصادق عليها من قبل مجلس نواب الشعب. ويُعتبر العرض على الاستفتاء تخليا عن حق الرد".
ولا شك في أن ممارسة رئيس الجمهورية لحق العرض على الاستفتاء سيكون تهديدا حقيقيا لإمكانية إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في موعدها المقرر. ولكن لا شك أيضا في أنّ هذا الاحتمال يظل ضعيفا، لا لزهد رئيس الدولة فيه، فالتعديلات عارضها شق ابنه في نداء تونس وتضرر منها حلفاؤه من أمثال رجل الإعلام نبيل القروي ورئيسة الحزب الحر الدستوري عبير موسي، ولكنّ الرئيس سيعجز عن المناورة لأنّ منظومة الحكم لم تكن لتمرر مشروع التعديل لولا حصولها على موافقة القوى الإقليمية والدولية التي قد تسنده في أي مسعى انقلابي على التوافقات الحالية. فمن المعلوم أن القرارات الكبرى في تونس ليست شأنا داخليا محضا، بل هي شأن إقليمي ودولي بحكم غياب مقوّمات السيادة.
من هي الجهات التي عليها منع تحوُل التعديل في القانون الانتخابي إلى "غنيمة" لبعض الأحزاب الكبرى؟
ختاما، يمكن أن نعتبر أن أغلب ما جاء في التعديلات هو أمر جيد، ولكنّ مساهمة التعديلات في ترسيخ الديمقراطية وتنقية الحقل السياسي من المشبوهين يظل مرهونا بمدى قدرة الأطراف المتدخلة في العملية الانتخابية على منع تحول تلك التعديلات إلى "غنيمة" لمنظومة الحكم. فلو اكتفينا مثلا بالتعديلات التي تمنع مالكي وسائل الإعلام أو المشرفين على الجمعيات الخيرية من استثمار مواقعهم للتموقع السياسي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو التالي: على افتراض أن القانون لا يستهدف أطرافا معينة ولا يطمح احتكار القاعدة الانتخابية لتلك الأطراف، كيف يمكن أن نضمن عدم تأثير المال السياسي المشبوه (شراء الأصوات نقدا أو عبر مساعدات اجتماعية) أو وسائل الإعلام العمومية والخاصة في تحديد نوايا التصويت لدى بعض الفئات الاجتماعية، ومن هي الجهات التي عليها منع تحوُل التعديل في القانون الانتخابي إلى "غنيمة" لبعض الأحزاب الكبرى؟
إنه سؤال ينتظر إجابته من الهيئة العليا المستقلة الانتخابات (ISIE) ومن الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري(HAICA)، ومن سائر منظمات المجتمع المدني التي يُعوّل عليها المواطن التونسي لضمان انتخابات نزيهة وشفافة، انتخابات لا توجّهها استراتيجيات منظومة الحكم لوراثة نفسها بعد الاستحقاق الانتخابي المقبل.
الملامح العامة لانتخابات الإعادة في إسطنبول
المسار الديمقراطي الانتخابي بتونس.. بين "قوى الردة" و"الشعبوية الجديدة"