قضايا وآراء

ملحمة الصمود في مواجهة غطرسة القوة

1300x600
منذ بداية العقد الأخير من القرن الماضي والحديث يتوالى عن مشروع خارطة لشرق أوسطي جديد؛ تتحكم في رسمها قوى عالمية وإقليمية، لها مصالح استراتيجية مباشرة في المنطقة العربية، مع تجاهل أصوات الشعوب، وحقائق التاريخ والجغرافيا. لقد وصلت دول العالم العربي إلى حالة من التقسيم والتشرذم والعجز عن أخذ زمام المبادرة، وتهافت قيمتها وتأثيرها في المشهد العالمي بكل المناحي، عن طريق خطط غير مباشرة، لعناصر تكرس تقسيم العالم العربي، طبقا لما يسمى الآن "صفقة القرن"؛ التي يرى الكثير من المراقبين أنها قد اكتملت، وأن مرحلة التنفيذ على أرض الواقع ليست ببعيدة.

حروب بالوكالة:

في مؤتمر حول الاستخبارات نظمته جامعة جورج واشنطن في العاصمة الأمريكية، في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، قال مدير الاستخبارات الفرنسية "برنار باجوليه": "إن الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة؛ سوريا مقسمة، والنظام لا يسيطر إلا على ثلث مساحة البلاد، والأمر نفسه ينطبق على العراق، فلا أعتقد أن هناك إمكانية للعودة إلى الوضع السابق"، وأضاف مستطردا: "المنطقة ستستقر مجددا في المستقبل، لكنها ستكون مختلفة عن تلك التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية".

وزكّى هذه النظرة مدير الاستخبارات الأمريكية السابق "جون برينان"؛ بقوله إنه مع الصراعات المتأججة، في سوريا والعراق وليبيا واليمن، أصبح من المستحيل وجود حكومات مركزية في هذه الدول؛ قادرة على ممارسة السيطرة، أو السلطة على الحدود التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية، فيما يبدو أن التطورات الميدانية في الدول الأربع المشتعلة؛ خرجت عن نطاق سيطرة الجامعة العربية منذ سنوات، في ظل تمسك الدول العظمى دوليا، والكبرى إقليميا، بخيوط مستقبل الشرق الأوسط في وضعه المزري من النزاعات الطائفية، والحروب بالوكالة.

دور إقليمي لإسرائيل:

ومن هنا؛ جاء مصطلح "الشرق الأوسط الجديد" كضرورة غربية، لترسيخ دور إقليمي لإسرائيل، وإفساح مكان لها في المنطقة العربية الإسلامية؛ كجزء من تلك المنطقة، ومقدمة ضرورية للتعايش معها، فكان لا بد لهم من إقحام تعبير "الشرق الأوسط" لتكييف المواطن العربي على تقبله، وتطور الأمر في استخدام هذا المصطلح ليصل إلى التراث العربي الإسلامي ليصبح تراثا "شرق أوسطيا" و"مأكولات شرق أوسطية"، للتخلي الصريح عن الهوية العربية والإسلامية لصالح "الشرق أوسطية".

فبعد أن كنا نطلق على هذه المنطقة: "المشرق الإسلامي"، كما سماه أهل التأريخ الإسلامي، أو العالم العربي، أو المنطقة العربية الإسلامية، بدأ يسود في التداول العالمي في الحديث عن تلك المنطقة في السياقات السياسية؛ هذا المسمى الجديد.

بيريز مهندس الفكرة:

خلال عام 1993م أصدر "بيريز" كتابه المعنون "الشرق الأوسط الجديد" الذي قدّم من خلاله أطروحته؛ واصفا إياها بـ"الأسلوب الجديد في التفكير للوصول للأمن والاستقرار، الذي يتطلب من دول المنطقة تحالفات سياسية، لتحقيق نظام أمني، وترتيبات إقليمية مشتركة واسعة النطاق".

وتحدث أيضا في الكتاب، عن أهمية مشروع محكم يفرض على المنطقة "سوقا شرق أوسطيا"، سوقا لا هوية له، لا يعرف الزمان أو التاريخ، سوقا مكتفي بذاته، وبالطبع لن يكون عربيا أو إسلاميا، بل ينتمي إلى مكان دون زمان أو تاريخ، وعلاقة الدول ببعضها في "الشرق أوسطية" علاقة تعاقدية فقط. وعبّر عن ذلك صراحة بقوله: "إن عظمة "إسرائيل" تكمن في عظمة أسواقها".

الخلاصة التي توصل إليها "العراب": "شرق أوسط جديد تقوده تل أبيب، شرق أوسط مدجج بالتنمية والرفاهية.. هذا في الظاهر، أما في الباطن فهي منطقة مفككة، على أسس عرقية وطائفية ومذهبية؛ يشتبك الجميع فيها مع بعضهم البعض، بينما يتصالحون جميعا، ويتحالفون باختلاف مشاربهم مع الدولة العبرية!

مشروع كونداليزا رايس:

عند تولي "كونداليزا رايس" الخارجية الأمريكية، كثاني امرأة في هذا المنصب الرفيع، بعد "مادلين أولبرايت"، تقدمت بخطوات رائدة في السياسة الدبلوماسية التحويلية الموجهة؛ التي تعني توسيع عدد الحكومات الديمقراطية المسؤولة في العالم، وخاصة في الشرق الأوسط الكبير. وقد واجهت تلك السياسة تحديات، خاصة مع اقتراب حركة حماس من الفوز بالأغلبية الشعبية في الانتخابات الفلسطينية في عام 2006، فكان لا بد من الحفاظ على البلدان ذات النفوذ الإقليمي، بما في ذلك السعودية ومصر، وتدعيم الأنظمة السلطوية، ضاربة عرض الحائط بمنظومة القيم الديمقراطية الأمريكية، في سبيل الحفاظ علي المصالح الأمريكية العليا.

صرحت "رايس" عندما كانت تشغل منصب وزيرة الخارجية الأمريكية (2005/2009 - في عهد الرئيس جورج بوش)، قبل أكثر من 11 عاما، ومن تل أبيب على وجه التحديد؛ قائلة إن هذا المشروع سيحقق "حلا سحريا لعلاج أزمات المنطقة المزمنة"، إلا أنه وإن طال زمن تحقيقه، فقد أصبح هناك من يقرأ تفاصيل الأحداث في المنطقة العربية، والتغيّرات المتسارعة على أرض الواقع، بأنها تصبّ في النهاية لصالح تقسيم بعض البلاد العربية، وتحقيق مخطط "بيريز- رايس"، وإن كان على مراحل متعاقبة.

خريطة نيويورك تايمز:

نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية في أيلول/ سبتمبر 2013، خريطة جديدة تظهر تقسيم خمس دول رئيسية في الشرق الأوسط إلى 14 دولة. تدّعي الصحيفة السياسية؛ التي تحظى بمصداقية كبيرة في أروقة صانعي الحدث السياسي في العالم الغربي، أن هذه الخريطة لمشروع ما يسمى "الشرق الأوسط الحديث"؛ ركز التقسيم الذي قدمه المحلل "روبرت رايت" عبر الصحيفة، على سوريا، حيث إن الحرب المدمرة هناك تشكل نقطة التحول المركزية، ومن هنا قسمها إلى ثلاث دويلات، وهي الدولة العلوية التي تتكون من أقلية سيطرت على سوريا لعقود وتسيطر على الممر الساحلي، والدويلة الثانية هي كردستان السورية، أما الثالثة فهي الدولة السنية.

سلطت الصحيفة الأمريكية من ناحية أخرى، الضوء على المملكة العربية السعودية، كثاني الدول التي يمكن تقسيمها إلى خمس دويلات؛ "وهابستان" في الوسط، وأخرى في الغرب تضم مكة والمدينة وجدة، ودويلة في الجنوب، وأخرى في الشرق مع الدمام، إلى جانب دويلة أخرى في الشمال (بما يرجح أن يصبح اليمن بأكمله أو جنوبه على الأقل جزءا من السعودية) تعتمد تجارتها بالكامل تقريبا على البحر.

أما عن ثالث الدول، فهي ليبيا، التي قسمتها الصحيفة الأمريكية، إلى دويلتين هما طرابلس وبرقة، كما أوضحت الصحيفة أن العراق يظهر كرابع الدول التي تم تقسيمها، ومن الممكن أن ينضم أكراد الشمال إلى أكراد سوريا، وتنضم العديد من المناطق المركزية التي يسيطر عليها السنّة إلى السنّة في سوريا، ويصبح الجنوب خاصا بالشيعة.

أما الدولة الأخيرة فهي اليمن، التي سيتم تقسيمها إلى دويلتين، وذلك بعد إجراء استفتاء محتمل في جنوب اليمن على الاستقلال، فمن الممكن أن يصبح جزءا أو كل جنوب اليمن جزءا من السعودية.

لم تكن هذه الخارطة هي الأولى من نوعها التي تطرحها الصحف ومراكز الفكر الغربية لتقسيم الشرق الأوسط في الأعوام الأخيرة، فمع نهاية عام 2013، طرحت الصحفية المعروفة "روبن رايت"، في مقال لها في صحيفة نيويورك تايمز، رؤية لتقسيم خمس دول حالية في الشرق الأوسط إلى 14 دولة.

ثورات الكرامة الوطنية:

اعتقد الكثيرون في العالم العربي؛ بعد اندلاع ثورات الشعوب العربية، ابتداء من نهاية عام 2010 في تونس، للدفاع عن الكرامة الوطنية وموروثات الأمة، وبادئ ذي بدء اتحادها العتيد ضد قوى الاستعمار والديكتاتورية الغاشمة، والثورة على نظم الحكم الشمولية المدعومة من الغرب، أن زمن وضع الخرائط مسبقة الإعداد قد ولى بلا رجعة، وبدا لهم أن تلك الثورات الشعبية خطوة أولى على طريق قيام وحدة عربية تمتد من المحيط إلى الخليج.

غير أن تلك الثورات اتخذت منحى مغايرا للطموحات الديمقراطية لشعوب المنطقة، لأسباب كثيرة سبق ذكرها وتفنيدها، وعلى رأسها التحريض الطائفي والعرقي، وتحولت إلى حروب أهلية إثنية؛ كلما انطفأ لهيبها في مكان أوقدته الأيادي الملعونة ليشتعل في مكان آخر، من معين مخططات دولية عابرة للقارات، تعمل على وأد تلك الثورات، وحرف مسارها، وإغراق المنطقة العربية بصراعات لا منتهية، لحصد الأرواح في كل من ليبيا واليمن وسوريا، وحتى العراق الغارق في أزماته المتتالية منذ الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003، ولتكن هذه الدول عبرة لبقية الدول العربية ومنها "مصر/ العسكر" لاستخدام ما حدث ذريعة لتقبل الشعوب العربية الرضوخ للمتطلبات الأمريكية، تحت فزاعة "حتى لا نكون مثل سوريا والعراق".

صفقة إعادة التدوير:

بعدما فشل "بيريز" في تحقيق مشروع الهيمنة السوقية في نهاية العقد الماضي، أحدث ما كُشف النقاب عنه الآن مرة أخرى، يتعلق بنفس المخطط القديم الحديث، والذي يتحدث البعض عن تنفيذه على يد إدارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، وهو ما أورده كتاب أمريكي؛ حقق مبيعات هائلة، تحدث فيه عن أسرار جديدة عن "صفقة القرن" لحل الصراع العربي- الإسرائيلي التي تعمل عليها إدارة "ترامب"، ويشرف عليها صهره ومبعوثه للشرق الأوسط للسلام "جاريد كوشنر".

صدر هذا الكتاب تحت عنوان "شركة كوشنر المحدودة.. الجشع والطموح والفساد.. القصة الاستثنائية لجاريد كوشنر وإيفانكا ترامب" للكاتبة الأمريكية "فيكي وارد"، في آذار/ مارس 2019، ويسلط الضوء على خطة كوشنر التي تضمنت تبادلا للأراضي، حيث سيمنح الأردن أراضي للفلسطينيين، وفي المقابل يحصل على أراض من السعودية، فيما تستعيد المملكة السعودية جزيرتين في البحر الأحمر؛ كانت قد أعطت إدارتهما لمصر في عام 1950، في إشارة إلى جزيرتي "تيران وصنافير" اللتين تسلمت إداراتهما السعودية بالفعل من مصر عام 2017.

ورشة البحرين لبيع الأراضي:

بذلت كل جهود التسوية لتمرير صفقات تجسد بيع أراض في مقابل عائدات مالية كبيرة، ولكنها باءت بالفشل، وعادت مرة أخرى لمحطتها الأخيرة، في شكل ورش إجبارية بالبحرين، يدعى إليها حكام العرب، وخاصة من الرعيل الجديد الذي يريد توطيد أركان عروشه؛ بالرضوخ التام للاجندة الأمريكية، وبالتطبيع الكامل مع إسرائيل ومنحها ما لا يملكون. وذكرت وكالة رويترز في 23 حزيران/ يونيو 2019، نقلا عن مسؤولين أمريكيين، واعتمادا على وثائق اطلعت عليها، أن خطة إدارة الرئيس "ترامب" الاقتصادية للسلام في الشرق الأوسط، التي يبلغ حجمها 50 مليار دولار، تدعو لإقامة صندوق استثمار عالمي؛ لدعم اقتصاديات الفلسطينيين والدول العربية المجاورة، وبناء ممر بتكلفة خمسة مليارات دولار؛ يربط بين الضفة الغربية وقطاع غزة.

أظهرت الوثائق أن خطة "السلام من أجل الازدهار" تشمل 179 مشروعا للبنية الأساسية وقطاع الأعمال. ومن المقرر أن يقدم جاريد كوشنر، صهر ترامب، هذه الخطة خلال مؤتمر دولي في البحرين هذا الأسبوع. لكن الخطة الاقتصادية الطموحة لا تطبق إلا بعد أن يقدم الفلسطينيون تنازلات ترضى عنها إسرائيل تماما، "حسب مصادر مطلعة (!)".

شعب الملاحم الصامد:

يأتي الكشف عن الخطة الاقتصادية الآن، بعد مناقشات دامية استمرت على مدار عامين، بلا جدوى، ويتم عرض هذه الصفقة المليارية تحت وطأة غطرسة القوة؛ بالحصار والإفقار والتجويع الاقتصادي الممنهج، وخاصة في قطاع غزة، ومع ذلك قوبلت بالرفض التام من الشعب الفلسطيني، الذي يدرك بكل وضوح أبعاد القضية، وما محاولات أمريكا وصويحباتها، بالاختراق الاقتصادي بعد أن فشلت كل الاختراقات السياسية، عبر عقود، إلا كرماد في الهواء.

الشعب الفلسطيني وحده، هو الذي استطاع إفشال صفقة إعادة التدوير؛ التي تطل برأسها بين الفينة والأخرى، من خلال الإدارات الأمريكية المتعاقبة، والإدارات "الإسرائيلية- العربية" المتآمرة، وما زالت هناك أيضا إغراءات كبيرة، بالكشف مستقبلا، عن خطة أوسع للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

يرفض الفلسطينيون الذين يقاطعون مؤتمر البحرين التحدث مع إدارة ترامب منذ اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل في أواخر 2017، وأعلنوا أنهم سيقاطعون المؤتمر، وكانت حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة أكثر وضوحا بالقول "فلسطين ليست للبيع".

وبناء عليه، بدا أن مستوى مشاركة الدول العربية المجاورة لفلسطين في مؤتمر البحرين على مستوى متدن للغاية، بمشارك نواب وزيراء المالية في الأردن وفي مصر والمغرب؛ في المؤتمر الذي لا يعول عليه كثيرا، والذي يستمر كوشنر في تدعيمه، حتى يثبت للجانب الإسرائيلي أنه يفعل ما بوسعه.

ويبقي أصحاب الأرض؛ الشعب الفلسطيني المرابط، هم الرقم الأصعب والكتلة الصلبة، في عدم إتمام تلك الصفقة، والحائط المنيع ضد بيع الأرض، منذ عقود بثبات لا نظير له، ملحمة ملهمة للشعوب عبر التاريخ القديم والحديث.