لاقت معارضة الهند لانضمام المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان "شاهد" بصفة عضو مراقب، إلى أحد مجالس الأمم المتحدة، استنكاراً واسعاً داخل الهند، الأمر الذي فتح نقاشاً أبعد من مجرد إخفاق دبلوماسي محدود أو حتى سياسي بمناصرة قضية شعب مظلوم وأرض مغتصبة، على أهمية وخطورة هذا الأمر، وتعدّاه إلى طبيعة تعريف الهند لهويتها وموقعها في هذا العالم، فهو من وجهة نظر معارضيه، يؤشر إلى تحوّل الهند اليوم عن الدور الذي رسمه لها أباؤها المؤسسون، من دولة تقود العالم المناهض للاستعمار، وزعيمة العالم الثالث، وقائدة لحركة عدم الانحياز التي جمعت عشرات الدول الآسيوية والأفريقية، إلى دولة تقودها سياسة "واقعية" تابعة للمعسكر الاستعماري الغربي الذي طالما عانت الهند من ظلمه وتسلطه ونهبه لخيراتها.
ويردّون ذلك إلى تراجع القوى السياسيّة العلمانية بقيادة حزب المؤتمر الوطني الهندي (INC)، والذي كان يصنّف على أنّه يسار الوسط، وبروز التيار الديني الهندوسي بقيادة حزب الشعب الهندي (BJP)، وهو حزب يميني يبني فكره السياسي على القومية الدينية الهندوسية، ويدعو إلى تحويل الهند إلى دولة هندوسية. والحقيقة أنّ تطور علاقة الهند بإسرائيل والمسار الذي اتخذته منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، وصولاً إلى ما وصلت إليه اليوم، لم يبدأه حزب الشعب بل حزب المؤتمر بزعامة رئيس الوزراء ناسيما راو، وكان ذلك على إثر الانهيار الفعلي للمعسكر اليساري بقيادة الاتحاد السوفييتي، والذي كان الحليف الأهم للهند.
تطور علاقة الهند بإسرائيل والمسار الذي اتخذته منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، وصولاً إلى ما وصلت إليه اليوم، لم يبدأه حزب الشعب بل حزب المؤتمر بزعامة رئيس الوزراء ناسيما راو
رغم أنّ أسباباً كثيرة سيقت لتفسير الخطوة الهندية، على غرار بدء الفلسطينيين بمسار مفاوضات أوسلو، وضغوط اليمين من أجل إقامة
علاقات مع
إسرائيل، إلاّ أنّ السبب الأهم ربما يكون، هو شعور الهند بأنّ انهيار الاتحاد السوفييتي سيجعلها معزولة دوليّاً إن لم تتخذ خطوات من شأنها التقارب مع المعسكر المنتصر في الحرب الباردة وهو المعسكر الغربي، وعدم تركه غنيمة باردة لغريمتها التقليدية، باكستان، كي تنفرد بها وتستفيد منها على حساب الهند، وخير مدخل لإصلاح هذه العلاقة هو المدخل الإسرائيلي.
جاء الرد على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية الهندية متذرعاً بأسباب شكليّة بعيدة الدوافع السياسية، وهو ما حاولت العديد من المقالات الصحفية المؤيدة لموقف الحكومة ترويجه، فأشار إلى أنّه لا تغيير في موقف الهند من القضيّة الفلسطينية، وأنّ الهند قد صوّتت ضد انضمام "شاهد" بسبب اتهام اسرائيل لها بأنّها على صلة مع جماعة إرهابية (المعني بذلك هي حركة حماس، رغم أنّ إسرائيل لم تقدّم ما يثبت ذلك، كما أن الهند لا تصنّف حماس كمنظمة إرهابية ابتداءً)، وهو الادعاء الذي نسفه تماماً اتصال رئيس وزراء "إسرائيل" بنيامين نتنياهو، والذي جعل من أهم أولوياته ملاحقة منظمات المجتمع المدني المناصرة للحق الفلسطيني، برئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، شاكراً إياه على تصويت الهند على رفض عضوية "شاهد"، ما يؤكد أنّ عملية التصويت لم تكن بمعزل عن الموقف السياسي للحكومة، وليست قضية هامشية أو شكلية.
الادعاء الذي نسفه تماماً اتصال رئيس وزراء "إسرائيل" بنيامين نتنياهو، والذي جعل من أهم أولوياته ملاحقة منظمات المجتمع المدني المناصرة للحق الفلسطيني، برئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، شاكراً إياه على تصويت الهند على رفض عضوية "شاهد"
ليس سراً أنّ العلاقة بين الهند وإسرائيل قد بلغت مديات غير مسبوقة في ظل حكم حزب الشعب الهندي، امتدت إلى التعاون العسكري والأمني والزراعي وارتفاع عدد السياح الإسرائيليين، وتضاعف حجم التجارة إلى المليارات. ويرد كثير من المراقبين هذا التطور إلى الطبيعة اليمنيّة للحزب، والذي يسعى إلى اقتفاء التجربة الصهيونية بتحويل الدين إلى قوميّة ترتبط بالأرض وتهمّش أكثر من نصف السكان، في ظل حكم ديمقراطي برلماني يعتمد تداول السلطة، وهو أمر يبدو متناقضاً من الناحية النظريّة، غير أنّ إسرائيل قد نجحت في تشكيل حالة غير مسبوقة في هذا المجال، وتسويقها عالميّاً، لذا فإنّ التقارب بين الطرفين بحسب هؤلاء، لا يقتصر على المصالح السياسيّة، بل يتعداه على استنساخ الأيديولوجيا ومنهج العمل السياسي.
من الطريف أنّ وفداً من إدارة مؤسسة شاهد كان قد زار السفارة الهندية في بيروت في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، وقدّم شكره للسفير الهندي والذي عبّر عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني وثبات موقف الهند بهذا الخصوص. أمّا العالمون بباطن الأمور في الهند، فلا يبدو أنّهم قد تفاجأوا بهذا الموقف، فالهند من وجهة نظرهم مضطرة للعب لعبة توازن بين الفلسطينيين والإسرائليين، تحافظ على مصالحها من خلال إرضاء الجميع، ولذا فإنّ مواقفها السياسيّة التي تبدو متعارضة هي انعكاس لهذه السياسة، الأمر الذي لا يبدو مبشّراً في الحالة الفلسطينية التي تراجع فيها العمل الرسمي الفلسطيني بشكل ملموس، وكاد يغيب عنها الدعم العربي والإسلامي، ما يترك الهند عرضة لضغوط ومصالح من طرف واحد هو الطرف الأمريكو- إسرائيلي، يقابله بقية من قوى محليّة هنديّة ما زالت تؤمن بأنّ الحق الفلسطيني لا يخضع لتقلبات السياسة والمصالح الآنية.