اتخذت تركيا موقفاً حاسماً تجاه اختطاف مليشيات خليفة حفتر ستة من مواطنيها في ليبيا، خاصة بعد تطاول حفتر عليها وتهديده باستهداف مصالحها وطائراتها وسفنها المدنية في البلاد. التهديد التركي (مع اللغة الحازمة جدّاً) أجبر اللواء المرتزق على التراجع وإطلاق سراح المختطفين.
القصة كانت قد بدأت أصلاً مع هجوم حفتر العسكري على العاصمة طرابلس، وهو ما رفضته أنقرة لأسباب عدة، ووقفت ضده بقوة. وموقفها كان بلا شك أحد أسباب دحر الهجوم وفشله، وبالتالي إسقاط الخطة المدعومة خارجياً، وربما حتى القضاء على مستقبله الشخصي العسكري والسياسي.
موقف تركيا كان بلا شك أحد أسباب دحر الهجوم وفشله، وبالتالي إسقاط الخطة المدعومة خارجياً، وربما حتى القضاء على مستقبله الشخصي العسكري والسياسي
دعمت تركيا طوال الوقت
حكومة الوفاق الشرعية في ليبيا المعترف بها دولياً، ونحن نتحدث عن حكومة تعترف بها المؤسسات الأممية والمجتمع الدولي كله، بمن فيهم داعمو حفتر نفسه.. حكومة شرعيتها تتناقض وتختلف جذرياً عن شرعية نظام بشار الأسد المنقوصة والوهمية؛ كون حكومة الوفاق لم ترتكب جرائم حرب ضد شعبها ومواطنيها، ولم تقصفهم بالسلاح الكيماوي والصواريخ بعيدة المدى.. هي حكومة توافق وطني بامتياز، أتت ضمن إطار ليبي داخلي مدعوم إقليمياً وأممياً، لإنهاء الحرب والخيار العسكري من أجل العودة إلى العملية السياسية السلمية، وإعادة بناء المؤسسات الوطنية الجامعة.
في نفس السياق، دعمت تركيا جهود الأمم المتحدة وممثلها غسان سلامة لإحلال السلام في البلد، وتنفيذ ما تم التوافق عليه بين الأطراف المحلية الفاعلة، وهي الجهود التي تماهت وتعاونت معها حكومة الوفاق الشرعية بصدق، بينما عارضها ووقف ضدها حفتر بكل ما أوتي من عنف وإجرام، ضمن سعيه المحموم المدعوم خارجياً للسيطرة بالقوة الجبرية على البلد وسلطاته وقراره.
وعموماً، يستند موقف تركيا من القضية الليبية بشكل عام إلى نظرتها تجاه الثورات العربية، ودعمها حق الشعوب في تقرير مصيرها، وحكم نفسها بنفسها ضمن نظام مدنى ديمقراطي لا يقصي أحداً، ولا يسمح كذلك بالإفلات من العقاب على جرائم الحرب، دون رفض مفهوم أو فكرة العدالة الانتقالية والتسامح ضمن التوافق الوطني العام.
يستند موقف تركيا من القضية الليبية بشكل عام إلى نظرتها تجاه الثورات العربية، ودعمها حق الشعوب في تقرير مصيرها
رفض أنقرة لهجوم حفتر على طرابلس انطلق من المعطيات والأسس السابقة، إضافة إلى فهم أبعاده وخلفياته، لجهة دعم قوى الثورة المضادة في العالم العربي للواء المتمرد؛ لاستنساخ النموذج الانقلابي وفرض حكم أحادي استبدادي، في محاولة لإعادة عجلة التاريخ للوراء، عبر إعادة إنتاج أنظمة الاستبداد والفساد التي أسقطتها الثورات العربية.
يجب لفت الانتباه كذلك إلى ما قاله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ومفاده أنه لن يسمح بتحوّل ليبيا إلى سوريا جديدة، أو استنساخ نموذج الأسد فيها، عبر حفتر طبعاً، علماً أن حفتر يشبه كذلك، أو يحاول التشبّه بالجنرال عبد الفتاح السيسي الذي انقلب على العملية الديمقراطية فى مصر، بحجة محاربة الإرهاب والحفاظ على الاستقرار والأمن في البلد، وهي نفس الحجج والمزاعم التي يرددها حفتر وإعلام الفلول والثورات المضادة الداعم له.
من هنا، دعمت تركيا حكومة الوفاق الشرعية المعترف بها دولياً وساعدتها لصد الهجوم، تنفيذاً للاتفاقيات الثنائية الموقّعة مسبقاً، وبوسائل شرعية علنية متوافقة مع المواثيق والقوانين الدولية.
تركيا دعمت إذن الحكومة الشرعية ومقاتليها، ومعهم الشعب الليبي الذي وقف إلى جانبهم وقاتل معهم، من أجل إجهاض هجوم حفتر وإفشال مشروعه المدعوم خارجياً بوقاحة، حتى من دول تعترف بالحكومة الشرعية.
كانت الهزيمة، بل
الفضيحة الكاملة لحفتر في مدينة غريان التي أظهرت من يتدخل فى الشؤون الداخلية الليبية بشكل غير شرعى، مع إقرار الأسرى من مقاتليه بمساندة خبراء عرب وأجانب لهم،
وضبط صواريخ أمريكية بيعت للإمارات، وطائرات صينية بدون طيار بيعت أيضاً لأبو ظبي، بعدما تحولت هذه إلى عاصمة للثورة المضادة، لا تتورع عن فعل أي لإفشال الثورات، ومنع نجاح الخيار المدني الديمقراطي في الدول العربية.
كانت الهزيمة، بل الفضيحة الكاملة لحفتر في مدينة غريان التي أظهرت من يتدخل فى الشؤون الداخلية الليبية بشكل غير شرعى، مع إقرار الأسرى من مقاتليه بمساندة خبراء عرب وأجانب لهم، وضبط صواريخ أمريكية بيعت للإمارات
رغم أن هجوم طرابلس فشل منذ ساعاته وأيامه الأولى، مع انتهاء فترة السماح من قبل القوى الداعمة، والتي امتدت لأسبوع من أجل حسم المعركة، قبل التراجع والتلطي خلف العبارات الدبلوماسية المطاطة الخادعة عن دعم حكومة الوفاق والعملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة.
إلا أن هزيمة غريان، معقل حفتر، وجهت ضربة قاصمة لهجوم ومعركة العاصمة ككل، مؤكدة الهزيمة الكاملة للواء ومليشياته واستحالة تحقيق الخطة الموضوعة مسبقاً.
هزيمة غريان كانت تعبيرا صريحا ومعلنا عن الهزيمة، وعن استحالة احتلال طرابلس، أو السيطرة على البلد. من هنا يمكن فهم موقف حفتر وتصعيده ضد تركيا، وإلقاء التبعية على قوى خارجية، وليس على رفض الشعب الليبي وحكومتها الشرعية التوافقية المدعومة من الأمم المتحدة نفسها، لإحلال السلام في ليبيا بعيداً عن الخيار العسكري والإقصاء لأي من المكونات السياسية والحزبية في البلد.
قصة حفتر ليست إلا محاولة للفت النظر عن هزيمته خيبته، كما لإلهاء تركيا واستنزافها في معارك جانبية، وخلق مزيد من المشاكل والعقبات أمامها
لا شك في أن حفتر مرتزق صغير يعبر كذلك عن موقف مشغليه في محور الشرّ الساعي للانتقام من تركيا، لمواقفها المعلنة من جريمة خاشقجي، وإصرارها على كشف ملابساتها، ثم الذهاب إلى أبعد مدى من أجل محاسبة المسؤولين عنها، واتخاذ نفس الموقف من جريمة قتل الرئيس محمد مرسي والمطالبة بكشف ملابساتها والمسؤولين عنها، ثم تعرية مواقفهم المخجلة من صفقة القرن الأمريكية الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، وفرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، وقبل ذلك وبعده؛ دعمها العنيد والثابت للثورات العربية، ورفض صبغها بالدم، أو الالتفاف على الخيار الديمقراطى للشعوب العربية الثائرة.
عموماً، فإن قصة حفتر ليست إلا محاولة للفت النظر عن هزيمته وخيبته، كما لإلهاء تركيا واستنزافها في معارك جانبية، وخلق مزيد من المشاكل والعقبات أمامها، وصولاً إلى حلم أو وهم إيقاف سيرورة تطورها ونهضتها وإعجاب، بل تعلق الجمهور العربي بنموذجها الديمقراطي التنموي النهضوي. ولكنها أثبتت من ناحية أخرى؛ أنها (تركيا) قوة إقليمية كبرى قادرة على الدفاع عن قناعاتها ومصالحها، وتواصلها مع محيطها العربي الإسلامي، ورفض أي حواجز أو عوائق تمنعها من التواصل الطبيعي والتاريخي مع أشقائها، والانخراط بقضاياهم المحقة والعادلة.