بصعوبة بالغة يحاول جلال صعود درج منزله؛ ومع كل درجة يستذكر البنية القوية التي كان عليها قبل حلقة الألم التي مر بها وأفقدته جزءا هاما من حياته، بل حوّلته إلى شخص عاجز مشحون بالذكريات المزعجة.
بدأت حكاية الشاب الفلسطيني جلال الشراونة في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2015 حين استقرت في ساقه اثنتا عشرة رصاصة "إسرائيلية" داخل مستوطنة "نيغوهوت" المقامة على أراضي جنوب غرب مدينة الخليل بالضفة المحتلة، حيث زعمت قوات الاحتلال حينها نيّته تنفيذ عملية فدائية ولم يكن يتجاوز من العمر الـ17 عاما أو يحمل أي سلاح.
ويروي الشراونة لـ"عربي21" ما حدث معه؛ حيث إنه فقد الوعي بعد إصابته على الفور ولم يستيقظ إلا بعد أسبوع في مستشفى "سوروكا" الإسرائيلي ليجد نفسه مقيدا بالسرير، وبعد استفاقته قام الاحتلال بنقله إلى سجن الرملة للتحقيق معه، وهناك فوجئ من مشهد ساقه المفتتة والعظم البارز منها وكأنه كان ملقى في العراء وليس في مشفى.
يقول جلال إن مستشفى "سوروكا" لم يفعل شيئا لإصابته سوى تغطية ساقه النازفة بالشاش الطبي، حيث لم تتم إزالة الرصاصات أو الشظايا منها وبقي الاحتلال ينتظر استفاقته من الغيبوبة كي يحقق معه.
ولكن الأصعب على نفس ذاك الفتى كانت جولات التحقيق التي تمت في مكتب ضيق جدا لساعات طويلة ولمدة شهر تقريبا، حيث كانت ساقه تنزف وتحوّل أرضية المكتب إلى بركة من الدماء دون أن يكترث المحقق الإسرائيلي لذلك، بل حين يطلب منه جلال أي رعاية طبية يتهمه بالكذب وادعاء الألم!
اقرأ أيضا: بتر الاحتلال ساقه.. محمد يتحدى ويبدأ عامه الدراسي (صور)
وصل الحال بساق جلال أن تتعفن من القدم ويتحول لونها إلى الأسود، ومر هذا الشهر القاسي وهي تنزف بكميات كبيرة بينما هو ملقى على أحد الأسرّة في مستشفى الرملة، وفي أحد الأيام فقد وعيه من شدة النزيف فهرع الأسرى إلى طرق أبواب القسم للضغط على السجانين كي ينقلوه إلى المستشفى.
ويضيف: "غبت عن الوعي كثيرا قبل أن يتم نقلي من هناك، ثم استفقت وأنا مقيد من جديد على سرير مستشفى (أساف هروفيه) وأشعر بوخز في ساقي، كشفت عنها الغطاء لأجدها مبتورة بأكملها من تحت الحوض بقليل، ذُهلت وشعرت بالقهر لأنهم أوصلوني إلى هذا الحد، فحتى مشافيهم تتعامل بقسوة معنا وتتسبب لي بإعاقة دائمة سأعيش معها ما حييت".
وحتى بعد بتر ساقه ورغم الحالة النفسية الصعبة التي كان يمر بها؛ فإن ضباط الاحتلال واصلوا جولات التحقيق مع جلال، بل وقاموا بإجباره على مشاهدة مقاطع مصورة لدفن ساقه المبتورة بعد تسليمها لعائلته في محاولة لزيادة ضغطه النفسي.
حاول الفتى الأسير تخطي هذه الأزمة وحكم بالسجن لثلاث سنوات وأفرج عنه في كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي، ولكنه ما زال إلى الآن يقاسي نتائج ممارسات الاحتلال المتعمدة.
"ملف أسود"
يندرج ملف الإهمال الطبي في سجون الاحتلال ضمن أكثر الملفات ضررا بالأسرى الفلسطينيين، وكأن المرض أو الإصابة يتم استغلالهما من قبل السجان كي يزيد معاناتهم.
وتشكّل حكاية الفتى محمود صلاح (15 عاما) من بلدة الخضر جنوبي مدينة بيت لحم جزءا آخر من هذا الإهمال، حيث تم اعتقاله في شهر رمضان الماضي بعد إطلاق الرصاص على ساقه واختفت أخباره عن عائلته.
وتقول والدته لـ "عربي21" إنها فوجئت بعد أيام من اعتقال ابنها بوصول نبأ بتر ساقه في إحدى المستشفيات، حيث لم تتوقع أن إصابته وصلت إلى هذا السوء لولا الإهمال الطبي الذي تعرض له.
اقرأ أيضا: بتر وتقييد.. هذا ما فعله جيش الاحتلال بضابط فلسطيني بالضفة
وتضيف:" أفرج عن محمود بعد أسابيع من اعتقاله وسط حالة قهر عامة بين عائلته ومعارفه، فهو فتى كثير الحركة واللعب ورياضي لا يحب الجلوس، ولكن أحلامه الآن مهددة وهو يعيش حالة نفسية صعبة".
عائلة الطفل صلاح لم تسأله بعد عما حدث معه وكيفية إصابته، فهي لا تريد إعادة المشهد الموجع له وتكتفي بالحديث معه عن مستقبله ودراسته رغم ما يمر به.
ولا يتوقف الحال هذا على فتيين فقط بل يتعداه إلى العديد من حالات الإصابة التي يتهدد أصحابها البتر بينما هم غرقى في ملف الإهمال الطبي، فعائلة الأسير الفتى عماد حسنين من سكان مدينة رام الله ما زالت تناشد وسائل الإعلام الاهتمام بملفه الطبي المشابه، حيث كان أصيب في أيار/ مايو الماضي برصاص الاحتلال في ساقه واعتقل وما زال يعاني من قطع الشريان الرئيسي فيها وبداية تعفنها ما يثير القلق الكبير لدى العائلة من مصيرٍ مماثل.
أما الناطقة باسم مركز أسرى فلسطين للدراسات أمينة الطويل، فتقول إن عمليات بتر الأطراف تأتي نتيجة تعمد الاحتلال إصابة الفلسطينيين بالرصاص وخاصة الأطفال في أطرافهم حتى يسيطر عليهم خلال الاعتقال وكي يشكل حالة ردع في صفوفهم، مؤكدة أن هذه السياسة تصاعدت خلال الأعوام القليلة الماضية.
وتشير في حديث لـ "عربي21" إلى أن هناك الكثير من الأسرى بانتظار بتر أطرافهم بسبب الإصابة أو المرض، ولا يقدم لهم العلاج الحقيقي واللازم بل المسكنات فقط، وذلك ضمن سياسة متبعة من أجل الضغط عليهم في الاعتقال.
وتضيف:" هناك حالات لأسرى فلسطينيين يتم تعمد عدم تقديم العلاج لهم أو التأخير في ذلك ما فاقم في حالتهم الصحية وأصبحت أعضاؤهم بحاجة لاستئصال أو أطرافهم بحاجة لبتر وزيادة في الحالة المرضية ووصولها إلى اليأس أحيانا، فالبتر ليس فقط ما يحدث بحق الأسرى وإنما الموت أيضا حيث إن الحركة الأسيرة ودعت شهيدين خلال عام واحد بسبب سياسة الإهمال الطبي".
وتبين الطويل أن الاحتلال يماطل كثيرا في قضية العلاج ما أدى إلى تفاقم أعداد الأسرى المرضى حتى بلغ أكثر من 750 أسيرا وأسيرة بينهم أكثر من 289 يعانون من أمراض مزمنة، رغم أن العلاج هو حق معترف به في كل الدول أخلاقيا وقانونيا، مشيرة إلى أنه رغم كل هذه الحالات المرضية إلا أنه لم يسبق أن تم توثيق زيارة فعلية من قبل أي مؤسسة طبية أو حقوقية للسجون للاطلاع على تلك الحالات في صفوف الأسرى، رغم أن المطلوب هو محاسبة الاحتلال وتجريمه على ذلك.
عودة السفراء بين عمان والدوحة.. لماذا خالف الأردن دول الحصار؟
لماذا تتواصل هجمات الحوثي على السعودية؟.. خبير يجيب
أكاديمي سعودي يتحدث عن أوجه الشبه بين خاشقجي ومرسي