"بعد تفكير متأن ودعما لحقوق المرأة والمثليين وحرية التعبير"،
قررت المغنية نيكي ميناج إلغاء حفلها، الذي كان مقررا بفعاليات مهرجان جدة الدولي، على بعد أسابيع قليلة من انطلاق موسم الحج الذي دأب المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها على السعي إليه منذ أربعة عشر قرنا وحتى الآن؛ بأرض الحرمين الطاهرة.
هذه هي أرض الحجاز الجديدة التي صارت ترتضي المهانة على أيدي نيكي ميناج؛ على العز والتبجيل من ضيوف الرحمن من الحجاج والمعتمرين. فأن تتجرأ نيكي ميناج على رفض دعوة هيئة
الترفيه السعودية، ومن يقف وراءها، رغم كل الإغراءات، فتلك ضربة لسياسة تزيين الواجهة المنتهجة منذ سنوات في المملكة؛ سعيا لنيل رضا الغرب، ولو على حساب الثوابت والتقاليد والأعراف. لقد انقلب السحر على الساحر، وصارت المملكة وسياساتها مفضوحة مرة أخرى للعالمين.
كان التوجه باستدعاء الفنانين العرب والأجانب إلى الأراضي السعودية
منطلقا من سعي الحكام الجدد إلى تقديم أنفسهم، قبل أي شيء آخر، كضمانة للحد من التشدد الديني الذي كان أسلافهم رعاة له، وللغلاة من المنظرين له، على خلاف التعاليم السمحة للدين. وقد كان ولي العهد السعودي واضحا حين أعلن أنه غير مستعد للتضحية بثلاثين سنة أخرى للعودة إلى ما كان عليه المجتمع السعودي قبل الثورة الإسلامية في إيران، فكان ما قدمه مسلسل العاصوف مجتمعا متفسخا ركنه الأساسي الرذائل والإقدام عليها. ولتطبيق السياسة الجديدة المبنية على "الانفتاح"، كانت هيئة الترفيه التي تصدى تركي آل الشيخ لقيادتها.. ونعم الاختيار. وعندما يترك تطبيق "الرؤية" الجديدة لتركي آل الشيخ وأمثاله، تصبح الميوعة منهجا وتقطيع المعارضين إلى أشلاء سياسة دولة توثقها التقارير الأممية وبيانات منظمات
حقوق الإنسان.
ولأن العالم ليس مقتصرا على رؤى محللي قناة "سعودي 24" أو غيرهم، ممن احتكروا الشاشات مدافعين عن خيارات الحاكم الفعلي للمملكة ومعلمه الإماراتي، كان لا بد لهذا النهج الطائش أن يرتد على البلاد، على عكس ما ينتظره القائمون عليه.
فبيان نيكي ميناج، الذي عممته على وكالات الأنباء، لم ينطلق من قناعة حقيقية بأن
الغناء بالسعودية دعم للسياسة التسلطية ضدا على حقوق الأفراد والجماعات، بل مجرد تقدير موقف موفق من مغنية، ما كان أحد ينتظر منها ذلك، لحجم الأضرار التي قد تلحق بصورتها بالمشاركة في مهرجان واجهة؛ لا يسعى إلا إلى استغلال صورتها في الترويج لواقع متخيل غير موجود على الأرض، تلميعا لصورة سلطة تعاني انفصاما في الشخصية؛ بين سعي لتمييع المجتمع، وإصرار على الضرب بيد من حديد أو منشار على كل صوت مخالف أو ناصح أو ساكت عن الترويج لها؛ والتبشير بالخير القادم على يدي ولي عهدها.
لكن تداعيات قرار نيكي تتجاوز القرار الفردي؛ لما هو أكبر حيث تداعت مجموعة من المنظمات الدولية، التي تتخذ من الدفاع عن حقوق الإنسان مجالا للاشتغال، كمنظمة هيومن رايتس، إلى تبني القضية والترويج لها عكسيا، بما يعيد التذكير بالسجل الأسود للمملكة في المجال إلى الواجهة، خصوصا مع تزامن ذلك مع التصريحات المتتالية للمقررة الأممية المعنية بحالات الإعدام خارج القانون، أغنيس كالامار، التي أعادت جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي إلى الواجهة كواحدة من أبشع الجرائم التي تلطخ أيادي السلطة الجديدة ببلاد الحرمين. وليس أفضل من جدال على إلغاء فنانة عالمية، يتهافت الإعلام على نقل أخبارها، وسيلة لإعادة التذكير بالتجاوزات والجرائم المسجلة في هذا الباب.
في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، لم توفق الضغوط التي مورست على ماريا كاري في ثنيها على الإقدام على الخطوة ذاتها، لكن شهرة الفنانة سمحت لأصوات معارضة للتوجه الرسمي بالتذكير بمعاناة الناشطات السعوديات المحتجزات بسجون المملكة، والترويج للتسريبات التي أكدت تعرضهن للإهانة والتعذيب والحط من الكرامة الإنسانية دون تهم واضحة؛ غير رغبة السلطة في احتكار الفضاء العام وفضل ما تعتبره "إصلاحات" تخاف أن ينسب جزء منه إلى الناشطات السباقات إلى إثارتها والمكابدة من أجل تحقيقها.
لقد أظهرت الحملات المضادة التي تواكب حملات الترويج الرسمية للفعاليات التي دأبت على تنظيمها كيف أن المملكة تحصر حقوق النساء في قرار صدر بالسماح لهن بقيادة السيارات وكأنه سبق إنساني جعل ممثلها في الأمم المتحدة معزولا وهو يصفق وحيدا لإعلانه أمام ذهول ممثلي بقية الخليقة في المنتظم الدولي. أما حرية التعبير، التي أشارت لها نيكي، فقد تحولت عند المواطن السعودي إلى المطالبة باحترام حق السكوت عن الترويج للباطل دون خوف من مساءلة أو متابعة أو اعتقال أو إخفاء أو تمزيق أشلاء.
سعي السلطة الديكتاتورية العربية إلى استغلال الفن والرياضة ونجومهما؛ أمر درجت عليه الأنظمة في المشرق والمغرب، وإن كانت تجاهد قدر الإمكان لإبقاء الجميع تحت بيادتها، للتغني بالزعيم وإنجازاته، باعتباره النجم الأوحد الذي لا يعلى عليه. لكن كثيرا من التسريبات أظهرت أيضا كيف كانت تلك السلطات تستغل مقدرات بلدانها للترفيه عن النفس والأهل والخلان.
ماريا كاري التي استنجدت بها السعودية قبل أشهر، كانت ضيفة مرحبّا بها ونجمة لحفلات أبناء العقيد القذافي، كما كشفت وثائق ويكيليكس قبل سنوات، اضطرت معها للاعتذار، كما فعلت بيونسيه ونيلي فورتادو، اللتان غرفتا من نفس المعين ملايين من الدولارات للترفيه عن عائلة حاكم ليبيا؛ التي انتهى المطاف بأفرادها بين قتيل وطريد وسجين. وكذلك الحال في كثير من دول العرب التي تهدر ثرواتها تلبية لنزوات الزعيم والأبناء والخلان.
يد العقيد "المعطاءة" شملت ممن شملت حليمة بولند؛ بعقد ألماس بقيمة مليون دولار، نظير صورة ترضي غروره زعيما متفاخرا. حظ حليمة مع هدايا الملوك وفير؛ وثقه فيديو نشرته لهدية بقيمة ثلاثة ملاين ريال سعودي وصلتها قبل أشهر، باسم خادم الحرمين الشريفين، قبل أن تتراجع وتتبنى الرواية الرسمية بوقوعها ضحية نصابين "طامعين في استغلال ذلك بصورة سيئة لمآربهم الشخصية". أجمل جميلات الكون شكرت رجال الداخلية على "مجهودهم الجبار في حفاظهم على سلامة وأمن كل من يتواجد على أرضهم الطاهرة".
يا ليت أبناء الأرض الطاهرة يحفظون بالفعل طهارة البقاع المقدسة من الدنس الذي قد يلحقها من فعل جزء من أبنائها أو من ضيوف، على غير من اعتادت استضافتهم، فصاروا يتوافدون عليها من مشارق الأرض ومغاربها لقضاء مآرب غير تلك التي جعلت لها موضعا ومقاما.
الدول لا تبنيها
الحفلات الغنائية ولا الدعاية المدفوعة الأجر من قوت الناس، والمجتمعات لا ترتقي ولا يصلح حالها بتغييب وعي الناس عن المشاكل والتحديات الحقيقية التي تواجه الأفراد والجماعات، ولا الاستنساخ الرديء والجاهل للنماذج الجاهزة التي لا تأخذ بالخصوصيات. لقد ارتد السحر على الساحر، والقادم أعظم إن كنتم تعلمون.