رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق وزعيم حزب "أزرق أبيض" الجديد الذي ينافس على مقاعد الكنيست القادم، بيني غانتس، قال في تصريحات أخيرة له؛ إنّ حزبه لن ينسحب من الكتل الاستيطانية في الضفّة الغربية، ولا من القدس ولا من غور الأردن، في إعلان واضح عن الثوابت الإسرائيلية في ما يخصّ الضفّة الغربية.
صحيح أنّه أدلى بتصريحاته هذه في سياق الإعداد للانتخابات القادمة، بيد أنّها ليست تصريحات انتخابية، إلا بالقدر الذي يُطمئن فيه الأحزاب اليمينية ويدفع به دعاية منافسه الرئيس، حزب الليكود الذي يقوده رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو. بكلمة أخرى، فإنّ القدر الذي أعلنه غانتس من التمسك بالضفّة الغربية، هو الحدّ الأدنى للإجماع الإسرائيلي حول الضفّة الغربية، والعنصر الثابت في نظرية الأمن القومي الإسرائيلي.
القدر الذي أعلنه غانتس من التمسك بالضفّة الغربية، هو الحدّ الأدنى للإجماع الإسرائيلي حول الضفّة الغربية، والعنصر الثابت في نظرية الأمن القومي الإسرائيلي
تعود هذه النظرية إلى ما يُدعى بـ"خطّة ألون"، نسبة إلى إيغال ألون، العسكري والسياسي العمّالي الإسرائيلي السابق، الذي شغل عددا من المناصب السياسية المهمّة في الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ مطلع ستينيات القرن الماضي وحتى آخر عقد السبعينيات منه، فقد نصّت خطّته، على ضرورة الاحتفاظ بالسيطرة الإسرائيلية العسكرية والاستيطانية على أراضٍ داخل
الضفة الغربية، ولاسيما تجمع "غوش عتصيون" بين القدس والخليل، بالإضافة للسيطرة المباشرة على غور الأردن، وسفوح المرتفعات الشرقية، والطرق الواصلة بين أريحا والقدس.
هذه الخطّة، التي كانت في الوقت نفسه نواة مقترح توسيع غزّة إلى سيناء، تحوّلت إلى نظرية معتمدة في الأمن القومي الإسرائيلي، تستند إلى أهمية السيطرة المباشرة على الأرض وتحويلها إلى عمق استراتيجي وقواعد للهجوم المضادّ، وعدم الاكتفاء بالمظلّة الدوليّة التي أوجدت "إسرائيل"، باعتبار أنّ هذه المظلّة ليست ضمانة ثابتة. بمعنى أنّها نظريّة في الاعتماد الذاتيّ على النفس، وفي فرض الوقائع التي تعالج مشكلة افتقاد "إسرائيل" إلى العمق الجغرافيّ في بيئة معادية ورافضة لوجودها.
يمكن القول إنّ هذه النظرية هي التي صاغت معالم اتفاقية كامب ديفيد بين "إسرائيل" ومصر، على نحو حوّل سيناء إلى عمق استراتيجي لـ"إسرائيل"، بعد تحديد حجم القوات المصريّة وعتادها داخل سيناء, في إطار تقسيمها إلى مناطق (أ، ب، ج). وعلى الأرجح لم تكن "إسرائيل" لتكتفي بالنوايا المصريّة، وإنما اشتغلت استخباراتيّا طوال العقود الماضية على ضمان تلك النوايا. ولعل التفريعة التي أضافها السيسي لقناة السويس كان من أهدافها زيادة الموانع المائية في وجه أيّ قوّات من الممكن أن تهدّد "إسرائيل" من الغرب.
تبقى الضفّة الغربية، التي يعني تحريرها حرفيّا، القبض الاستراتيجي على "إسرائيل"، وحشرها في منطقة "غوش دان"، بعد الإطلالة المباشرة على الساحل، وتحويل مصالح "إسرائيل" الحساسة إلى هدف ممكن في أيّ لحظة. لا شكّ والحال هذه، أنّ التفوق الجوّي، والتقني، والرادارات والاستطلاعات التقنية المتقدمة، لا تغني عن الوجود البشري الفيزيائي في الضفّة الغربية، والقتال على أراضي الضفّة في أيّ مواجهة محتملة من الشرق، بل وتهيئة أراضي الضفّة للهجوم المضاد للقتال على أراضي "العدوّ" شرقيّ النهر!
التفوق الجوّي، والتقني، والرادارات والاستطلاعات التقنية المتقدمة، لا تغني عن الوجود البشري الفيزيائي في الضفّة الغربية، والقتال على أراضي الضفّة في أيّ مواجهة محتملة من الشرق
حتما سوفَ يُضاف إلى هذا العامل الأمني الاستراتيجي؛ عوامل أيديولوجية ودعائية وديموغرافية. فـ"غوش دان" لا تكفي لاستيعاب التزايد السكاني الإسرائيلي الذي يرفض التمدد إلى النقب الذي يشكّل المنطقة الأكبر في أرض
فلسطين الانتدابية، لتكون الضفّة الغربية هي المكان المفضّل للتمدد السكاني الإسرائيلي الاستعماري، وهي أساسا لبّ الأيديولوجيا الصهيونية، ودعاية استقطاب المهاجرين، باعتبارها "أرض إسرائيل التوراتية".
هذه العوامل كلّها تجعل من الضفّة الغربية، ولو في حدود معيّنة، محلّ إجماع إسرائيلي، يجد فيها تعويضا نسبيّا عن العمق المفقود في بيئة معادية. فـ"إسرائيل" كيان غير طبيعي، يشتغل على أساس كلّ الاحتمالات الممكنة في المنطقة العربية، والتحوّلات التي قد تنفتح عليها، ومن ثم، فلا مجال للنوايا الطيّبة، أو الركون لمعاهدات السلام، وإنّما لا بدّ من الأرض قاعدة ثابتة للتحرك الاستراتيجي والمناورة العسكرية. وما دامت موازين القوى تعمل لصالح "إسرائيل"، فلماذا لا تستغل هذه الموازين المواتية لها لتحقيق الاحتياجات الاستراتيجية الممكنة؟!
لماذا تفضل السلطة غانتس؟!
بالرغم من ذلك، ما تزال قيادة السلطة الفلسطينية، تتصرف وكأنّها تراهن على المنافسة الحزبية داخل "إسرائيل"، وذلك بعد تجربتها الطويلة التي يُفترض أنّها أكسبتها معرفة دقيقة بحدود "إسرائيل" التفاوضية، التي لا يمكن فيها أن تتنازل عن مصالحها الاستراتيجية الضرورية في الضفّة الغربية، وهو ما يفقد أي دولة فلسطينية محتملة داخل الضفة الغربية معناها السيادي.
قيادة السلطة الفلسطينية، تتصرف وكأنّها تراهن على المنافسة الحزبية داخل "إسرائيل"، وذلك بعد تجربتها الطويلة التي يُفترض أنّها أكسبتها معرفة دقيقة بحدود "إسرائيل" التفاوضية
يُستبعد أن قيادة السلطة لا تدرك ما هي حدود بيني غانتس التفاوضية، وقد كان هذا الأخير رئيسا للأركان حافظا لنظرية الأمن القومي الإسرائيلي، وواعيا بالقيمة الاستراتيجية الضرورية للضفة الغربية بالنسبة لدولة صغيرة وضيقة وفي بيئة معادية كـ"إسرائيل"، ومن ثم فهي (أي السلطة) لا تفضّله باعتبار الحلّ النهائي، وإنما باعتبار ذاتها من حيث هي، وذلك من جهتين.
الجهة الأولى، وجودها واستمرارها، فاليمين الإسرائيلي أكثر ضيقا من غيره، من القوى الفاعلة في "إسرائيل"، بوجود ممثل سياسيّ للفلسطينيين، حتّى لو اقتنع هذا الممثل، بحدوده الراهنة حدودا أبديّة، بمعنى أن السلطة ما عادت تطمح بأن تتحول إلى دولة على كامل الأراضي التي احتلت عام 1967، وهي تعلم اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، أنّ أقصى ما يمكن أن تطمح له أن تستمرّ كيانا وهدفا في حدّ ذاته، بصرف النظر عن كونها في أصلها وعدا بالدولة الفلسطينية.
وبينما يقوم اليمين الإسرائيلي بتقليص هذه الكيانية وإضمارها في قلب الإدارة المدنية الإسرائيلية الآخذة بالتضخم في الضفّة الغربية، أيّ إنّه ضمٌّ في صورة احتلال صريح، ترى المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية فائدة تلك الكيانية التي تفصل الفلسطينيين عن "إسرائيل"، وتمنح "إسرائيل" هيمنة أمنيّة واستيطانية مُجمّلة وبلا تبعات سياسية أو اقتصاديّة!
استراتيجية السلطة تجاه الفرقاء الإسرائيليين تتعلق بذاتها لا بمشروع تحرّريّ أكبر
أمّا الجهة الثانية، فهي التعامل في الأثناء، فبناء على رؤية كلّ من الطرفين للسلطة، أي المؤسسة السياسية اليمينية الحاكمة الخاضعة للمزايدات الحزبية، والمؤسسة العسكرية الأمنية المشغولة بالأمن أكثر من أيّ شيء آخر، فإنّ التعامل يزداد خشونة في حال المؤسسة السياسية، كالخصم من أموال المقاصّة، وهو الأمر الذي ورّط السلطة في ردّ فعل عمّق من أزمتها الاقتصادية، ومن ثم تهديد قدرتها على الاستمرار، بينما يميل الأمن الإسرائيلي إلى عدم إحراج السلطة؛ بما من شأنّه أن يضعف من قدرتها على القيام بمهمتها، أي فصل الفلسطينيين مع استمرار الفعل الأمني الإسرائيلي المباشر.
على ضوء ذلك، يتضح أن استراتيجية السلطة تجاه الفرقاء الإسرائيليين تتعلق بذاتها لا بمشروع تحرّريّ أكبر، وهو ما يجعل من الشقّ الواقعيّ الاستعماريّ مما يُدعى بـ"
صفقة القرن" يأخذ آماده ويكرّس مفاعيله بلا عقبات في الواقع.