بالأمس، احتفلت
مصر بمرور 67 عاما على قيام ثورة 23 يوليو 1952، التي
غيّرت وجه الحياه وليس شكل النظام فحسب، في مصر والعالم العربي أيضا؛ إذ كان بداية
الانقلابات العسكرية الحقيقية في المنطقة العربية، إذا استثنينا انقلاب حسني
الزعيم في سوريا عام 1949، الذي أُسقط بعد أربعة أشهر بانقلاب آخر قام به سامي
الحناوي، وتم إعدامه، ثم عقبه انقلاب ثالث في العام ذاته.
بعد
انقلاب يوليو 1952، توالت الانقلابات العسكرية في المنطقة بدعم من أمريكا، فهي
صاحبة فكرة الانقلابات العسكرية في العالم والراعي الحصري لها، وإليها ينسب الفضل
في تبديل الأنظمة وتغيير الحكام؛ لخلق عالم جديد على عينها ويدين بالولاء لها
ويكون على شاكلتها. فلقد ورثت إمبراطورية بريطانيا العظمى في أعقاب الحرب العالمية
الثانية، وأرادت أن تهيمن على الشرق الأوسط برجالها الذين تعيّنهم في البلدان
العربية لحراسة مصالحها الشخصية ولتحقيق مطامعها الاستعمارية، لتعزيز إمبراطوريتها..
يقول
رجل المخابرات الأمريكي "مايلز كوبلاد" في كتابه الشهير "لعبة
الأمم": "المخابرات الأمريكية قدمت المساعدات السرية لعبد الناصر، وإننا
جعلنا منه عملاقا. إن المخابرات الأمريكية التقت ثلاث مرات بعبد الناصر وجماعته،
في آذار/ مارس 1952، واتفقت معه على إشاعة الشعور بين المصريين بأن انقلابهم ليس
مفروضا من الإنجليز أو الأمريكان أو الفرنسيين، وسمحت له بأن يهاجم هذه الدول في
خطبه بعد الانقلاب ليبقى التعاون سرا بين المخابرات الأمريكية وبين الانقلاب".
ومن
أشهر الانقلابات العسكرية التي حدثت أثناء الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا في
الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، بعد الانقلاب في مصر، انقلاب وزير الدفاع
العراقي "عبد الكريم قاسم" عام 1958 الذي أنهى الملكية في العراق، ثم
أطيح به بانقلاب آخر نفذه البعثيون عام 1963، وتم إعدامه، ليتولى بعده صديق عمره
"عبد السلام عارف" الذي لقي حتفه في حادث مريب، إثر سقوط طائرته. وأكمل
بعده أخوه "عبد الرحمن عارف" الذي أطيح به في انقلاب آخر عام 1968 عُرف
بـ"
الثورة البيضاء" في العراق، بقيادة "أحمد حسن البكر"
ونائبه "صدام حسين"؛ الذي انقلب بعد ذلك على عمه وانفرد بحكم العراق.
ومضى
قطار الانقلابات العسكرية إلى اليمن في 26 أيلول/ سبتمبر عام 1962، حيث قامت
مجموعة من الضباط في الجيش بقيادة "عبد الله السلول" بالانقلاب على
النظام الإمامي الملكي في البلاد..
وواصل
القطار سيره إلى ليبيا يوم 1 أيلول/ سبتمبر عام 1969، حيث قام "معمر
القذافي" مع مجموعة من ضباط الجيش بالانقلاب على الملك "إدريس
السنوسي"، وأجبروه على التنازل عن الحكم ليتوج نفسه بعدها رئيسا لليبيا..
وهكذا
نرى أن تغير الأنظمة في العالم العربي، وسقوط الملكيات فيها واستبدالها بالنظم
الرئاسية، جاء من خلال انقلابات عسكرية، من حفنة من ضباط الجيش الصغار؛ أغوتهم قوى
خارجية طمعا في الحكم والاستيلاء على ثروات البلاد، وليس من خلال ثورات شعبية كما
حدث في أوروبا. ومع ذلك، يصر أصحابها الانقلابيون على اعتبارها ثورات شعبية،
ويقيمون لها الاحتفالات السنوية؛ يلقون فيها الخطب العصماء في ذكرى انقلابهم
"المجيد"!
كان
الانقلاب العسكري في مصر أعظم كارثة حلت على الأمة بأسرها، إذ كانت فاتحة تدخل
الجيوش العسكرية في سياسة دولها، وسيطرة العسكر على مقاليد الحكم في البلاد،
وإنهاء الحياة السياسية تماما وتجفيف منابعها كلية، وتحويل الأنظمة إلى أنظمة
بوليسية (مخابراتية) تلعب فيها أجهزة الاستخبارات دورا رئيسيا في إدارة شؤون
البلاد، حيث يدير الجيش الأمن العسكري، بدلا من حراسة حدود الوطن وحماية أراضيه.
ولقد تم سريعا في مصر بعد السيطرة على مقاليد الحكم؛ إنشاء نظام للتجسس ومراقبة
الاتصالات وما إلى ذلك، أطلق عليه جهاز "المخابرات العامة". وقد أنشأه
أحد رجالات الانقلاب، الصاغ "زكريا محيي الدين"، الذي استطاع من خلاله
أن يحول مصر إلى دولة خانقة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، خاصة مع التنصت
الدائم على المواطنين.
ولم
تكفهم أجهزتهم الاستخبارية الحديثة التي استوردوها من الاتحاد السوفييتي في تلك
المهمة، بل استخدموا الأفراد أيضا للإبلاغ عن كل ما لا يدين بالولاء لهذا النظام
الانقلابي. فكان الأب يبلغ عن ابنه وجاره وزميله في العمل، وكذلك الابن يبلغ عن
أبيه. وهكذا استطاعوا تمزيق النسيج الاجتماعي في المجتمع.
وبلغت
حالة البارانوية العنيفة لدى النظام ذروتها في الستينيات، مع تدخل الجيش مباشرة في
عملية الاعتقالات وإيداعهم في السجن الحربي التابع له، والذي شهد أبشع وأفظع أنواع
الإجرام والتنكيل، من قتل واغتصاب (رجال ونساء) وتعذيب وحشي (مادي ومعنوي) غير
مسبوق، حتى إبان الاحتلال الإنجليزي، فلم يراعوا في المواطن المصري إلا ولا ذمة،
بل عملوا على إذلاله وإهانته والحط من كرامته، والنيل من شرفه أمام زوجته وأبنائه،
في الوقت الذي كان زعيمهم وقائدهم
عبد الناصر يردد في خطبه مقولته الشهيرة:
"ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد"، وتصفق له الجماهير المغيبة
الحالمة بالحرية والكرامة والعدل في كل أنحاء الوطن العربي.
انتقلت
عدوى النظام البوليسي في مصر إلى سائر البلدان العربية التي شهدت انقلابات عسكرية،
وأصبح كدليل لها أو منهاج تسير عليه للحفاظ على حكمها الانقلابي. ولم تتخل تلك
الأنظمة السلطوية عن سياسة "فرق تسد" التي كانت تتبعها سلطة الاحتلال،
بل كانت أخلص منها في تنفيذها فخلقت طبقة (طفيلية) من الانتهازيين والمتسلقين ممن
عُرفوا بـ"مراكز القوة" فيما بعد، فسيطرت على البلاد والعباد. ومن
المفارقات أن الحاكم اتخذها الشماعة التي يعلق عليها كل أخطائه وهزائمه، كما فعل
عبد الناصر بعد هزيمته الساحقة في حرب 67، مع أنهم رجاله وخاصته!!
لم
يحمل البيان الأول للجيش بين ثناياه كلمة "ثورة" من قريب أو من بعيد، بل
أطلق عليه "حركة الجيش المباركة" وبتوقيع الضباط الأحرار، وحمل عبارات
براقة وكلمات رنانة تتوق إليها معظم الشعوب العربية في ذلك الحين، كالقضاء على
الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة عدالة اجتماعية، وإقامة حياة
ديمقراطية سليمة. وبعد أربعين يوما من الاستيلاء على الحكم، أصدروا قانون
"الإصلاح الزراعي" الذي يحد من الملكية الزراعية للأفراد، بحيث لا يزيد
عن 200 فدان بعد أن كان يملك الآلاف من الأفدنة؛ وُزعت على الفلاحين، وأصبح
المستأجر مالكا للأرض، وخرج الفلاحون فرحين مهللين بالحركة المجيدة، فاستغلها عبد
الناصر ورفاقه للترويج لحركتهم، وخاصة أن هناك قطاعا لا يُستهان به من الشعب كان
لا يزال يتوجس خيفة منهم، فاستقلوا قطارا يطوف بين المحافظات عُرف فيما بعد
بـ"قطار الثورة"، ليظهروا في شرفاته لتحية الجماهير المحتشدة التي خرجت
لاستقبالهم..
قد
يرى البعض أن في قانون "الإصلاح الزراعي" عدالة في توزيع الثروة، رغم اعتراض
شيخ الأزهر آنذاك عليه لأنه يخالف نصوص وتعاليم الإسلام ولكن من المؤكد أن هذا
القانون قد أضر بالزراعة في مصر أشد ضررا، إذ أنه قضى على وحدة الأراضي الزراعية
وقسمها وفتتها إلى أجزاء صغيرة، وبوّرت الكثير من الأراضي الزراعية وجُرفت، وبُني
فوقها المنازل ومصانع الطوب. ومن المفارقات الهزلية أنه ذهب بعد ذلك إلى الصحراء
لاستصلاح أرضها وتعميرها والزراعة فيها، كإنشاء "الوادي الجديد" الذي
أعلن عنه عبد الناصر في عام 1958، ليكون موازيا لوادي النيل تقوم فيه التنمية على
مياه الآبار الجوفية!
أما
البند الخاص بالقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، فبعد قرارات التأميم على
الشركات والمصانع والمحلات، وأصبح كل شيء تابع للدولة كما أعلنوا ولكنه في الحقيقة
وتبعا للواقع أصبح تابعا للجيش ومهيمنا عليه، وبدلا من سيطرة ثلة قليلة من
الرأسماليين على الحكم، سيطر الجيش على الاقتصاد وأصبح بمؤسساته العسكرية
والاقتصادية والإعلامية مسيطرا على الحكم بأكمله، وأصبح دولة داخل الدولة!
أما
باقي البنود التي وردت في البيان فحدث ولا حرج، فلم تقم الحياة الديمقراطية
السليمة التي وعدوا بها الشعب، بل حلّوا الأحزاب جميعها، وأصبح حكم الفرد فقط هو
الحكم الغالب بحزبه، ممثلا في البداية بـ"هيئة التحرير" ليحل مكانه
"الاتحاد القومي"، وليستبدله بعد ذلك بـ"الاتحاد الاشتراكي"،
حيث كان النظام في أوج صور الديكتاتورية المعروفة، وحكم الشعب بالحديد والنار..
أما
بناء جيش وطني قوي، فقد تسبب في انفصال سوريا عن الوحدة مع مصر عام 1961 لانحراف
وفساد قادته، وانهزم عام 1956، وسبّب أكبر كارثة للأمة العربية بهزيمته عام 1967
واحتلال القدس والضفة الغربية وسيناء والجولان.
ولم
تعد إسرائيل هي العدو التاريخي للأمة، بل تحولت البوصلة وأصبحت حركات المقاومة لها
هي العدو "فاحذرهم"، وأصبح قادة الكيان الصهيوني يعتبرون حكام مصر كنزا
استراتيجيا لهم!
لقد
بنى عبد الناصر شعبيته الطاغية في العالم العربي على عدائه الشديد لإسرائيل، وأنه
سيقذف بها في البحر، فإذا بالبحر يبتلع كل شعاراته وكلماته!
كم
أنت مظلومة يا فلسطين الحبيبة من ذوي القربى.. لقد تاجر بك كل كذاب أشر، واستغلك
قادة الانقلابات العسكرية في البلدان العربية للدعاية لهم ولترسيخ حكمهم الفاسد
المستبد، والنصب على شعوبهم باسمك الغالي، وكانوا أكبر وبال عليك..
حينما
قامت ثورة 25 يناير عام 2011، لتصبح ثورة شعبية بحق وتصحح الأخطاء والمصائب التي
حلت على الأمة جراء انقلاب 23 تموز/ يوليو، وأن يعود الجيش إلى ثكناته تاركا
الحياة السياسة والاقتصادية للمدنيين، قال مساعد وزير الدفاع "محمود
نصر": "ده عرقنا مانسيبوش للدولة الفاسدة، ده أحنا نحارب من
أجله".. وبالفعل حاربوا الثورة وأجهضوها بانقلاب 3 تموز/ يوليو الذي أطاح
بأول رئيس مدني منتخب منذ أكثر من سبعة آلاف عام، الرئيس الشهيد "محمد مرسى"،
ليستمر حكم العسكر وقبضته على كل مفاصل الدولة، بل زادوها عسكرة بدستور جديد يقنن
وضعهم ويجعلهم فوق الدولة، لتستمر مصر جيش له شعب!