وقعت قيادات (م ت ف) على اتفاق أوسلو وتوابعه دون أن تقرأ نص الاتفاق ودون التعرف على التزاماته، وفق قول كبير المفاوضين.
منحت أوسلو حق متابعة ومراقبة سلامة
تنفيذ السلطة للاتفاق "لمنسق شؤون الحكومة (الصهيونية) في المناطق" وهو
ضابط عسكري في جيش الاحتلال، بل جعلت ارتباط وزارة الشئون المدنية ووزيرها في
السلطة لدى هذا المنسق، وأعطته هذه الاتفاقية حق الاعتراض على قرارات وتشريعات
وممارسات السلطة ومؤسساتها.
شكلت (م ت ف) السلطة الفلسطينية
كأداة لتنفيذ الاتفاق الذي حمل عنوان (الحكم الذاتي الانتقالي المؤقت) والتي لاقت
معارضة شديدة من الفصائل الاسلامية والوطنية ومن شخصيات مستقلة ومن قيادات وازنة في
فتح، وكان واضحاً حينها أن أنصار الاتفاق شريحة محدودة من قادة فتح الملتفين حول
ياسر عرفات على أمل أن تفضي المرحلة الانتقالية ومدتها خمس سنوات إلى قيام الدولة
الفلسطينية في 1999، لكن هذا النفق المظلم والطويل لم يؤدِ إلى الاستقلال ولا إلى
قيام الدولة الفلسطينية، وأعلن العدو مراراً ألا مواعيد مقدسة.
بهذا الاتفاق وافقت (م ت ف) على
التنازل عن ثلاثة أرباع فلسطين وأعلنت إعترافها بحق "إسرائيل" بالوجود،
والأمن، كم أعلنت عن نبذ العنف بل عن مقاومته وملاحقته واعتباره إرهاباً، في الوقت
ظلت القضايا الكبرى مؤجلة ومعلقة إلى أجل غير محدود، وهي القدس والمستوطنات وحق
عودة اللاجئين، والأسرى، في الوقت الذي حسم الاحتلال هذه القضايا في الميدان ،
فليس للسلطة حق في ممارسة أي نشاط في القدس وليس لها حق الاعتراض على أي نشاط تقوم
به سلطات الاحتلال، واستمر العدو - الذي باتوا يطلقون عليه "الطرف
الآخر"- في مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، وفي التنكيل بالشعب قتلاً
واعتقالاً وملاحقة.
ظهر المفاوض الفلسطيني في صورة مكررة
وممجوجة، وهو يلتقي الجانب الصهيوني ويعود بتصريحات جوفاء وهدايا شخصية كثيرة.
وفي وقت مبكّر ضجت الدول المانحة
أمام تقارير تتحدث عن الفساد المالي والإداري، جاء الجواب من قيادة السلطة هؤلاء (الفاسدين،
أو المتهمين بالفساد) هم أنصار أوسلو ومؤيدو الاتفاق، ولا نستطيع معاقبتهم أو
الاستغناء هن دورهم في دعم مسيرة السلام.
ذلك كله أعاد كثيرين ممن صدقوا أوسلو
إلى جادة الفهم والصواب، ووسع دائرة المعارضين.
بعد رحيل عرفات واستلام عباس للسلطة
أجرى تغييرات جذرية على السلطة وأركانها، فأحال على التقاعد معظم المحسوبين على
نهج عرفات وعين مكانهم شخصيات قريبة من برنامجه ونهجه ليزداد الأمر سوءًا وليستشري الفساد في كل ناحية من حياة الفلسطينيين في الداخل أم في الشتات.
بعد فوز حماس في انتخابات 2006 وشعرت
فتحُ بمرارة الهزيمة - وهي التي تعتبر نفسها صانعة الثورة وأم القضية وتمتلك
الشرعية- فاستعملت ورقة الفلتان الأمني لإفشال الحكومة الفلسطينية العاشرة مما أدى
إلى أحداث غزة وتداعياتها.
على إثر ذلك اختار عباسُ سلام فياض
لرئاسة الوزارة وصنع الثاني والجنرال دايتون الأمريكي "الفلسطيني الجديد"، حيث بدأت تنهار منظومة القيم الوطنية، كالشجاعة والغيرة والتضحية
ورفض الذل وتمجيد الشهامة، لتحل محلها قيم النفع والمصلحة ورضا المشغلين تذكرون
هذه المقولة (لو طلبوا مني اعتقال والدي لفعلت). في هذه الأجواء تغولت الأجهزة الأمنية
وبسطت نفوذها على مفاصل الحياة كافة.
أصبح ما يسمى اقتصادا فلسطينيا معنيا
بـ"الرفاه" تحت الاحتلال، أكثر من إنشاء اقتصاد مستقل أو مقاوم. وتشكلّت
منظومات مصالح و"فساد" ارتهن بقاؤها بوجود الاحتلال وليس بزواله. من
مقال بعنوان ، (اتفاق أوسلو.. دروس للحاضر والمستقبل).
أصبح المال السياسي الذي تستلمه
السلطة شهريا عبر المقاصة من الاحتلال هو الرئة التي تتنفس منها السلطة الفلسطينية
وحركة فتح نفسها، وأضحت الحركة منقسمة على نفسها فهي اليوم تلاحق عددا من قياداتها،
وتتناسى قيادتها المغيبة في سجون الاحتلال، وتتجاهل عمدا فك لغز جريمة اغتيال
زعيمها ياسر عرفات، وباتت هياكل الحركة التنظيمية مهلهلة لا تعبر عن الجموع
المتناثرة من مناصريها، وأخطر نتائج الاتفاقية سلباً على فتح هو انتقال الحركة من
واقع مقاومة الاحتلال إلى حمايته وحراسة مستوطنيه في الضفة، بل ومحاربة المقاومة الفلسطينية
المسلحة حيثما وُجدت. (ماجد الزبدة) من مقال اتفاق أوسلو المشؤوم.
تدخلت القيادات المتنفذة في الحياة
اليومية للشعب، فالتوظيف بواسطة والعلاج بواسطة والمنح الدراسية بواسطة، أو بدفع
رشوة، واستحدثت السلطة شرط "السلامة الأمنية" لنيل الوظائف وكما انتشر
التوظيف على الانتماء التنظيمي، وعلى تأييد الشرعية.
استاء الشارع الفلسطيني من حالة
"صفر صفر" - وهو تعميم أمني يعلنه الاحتلال يُلزم بموجبه عناصر الأمن
الفلسطيني دخول مقارهم، وتنكيس أسلحتهم عند مرور قواته-
أما سلاحهم ورصاصهم فلا يظهر سوى في
الأعراس وفي " الطوشات" العائلية، وفي إرهاب المخالفين والمعارضين، وفي
تلفيق القضايا للخصوم، وفي فرض الاتاوات والبلطجة حتى على المسيحيين من أبناء
فلسطين.
وإذا تحدثنا عن قمع الحريات ومنع
المظاهرات بالقوة فالصورة أبلغ دليل، وصار الوطن مزرعة رعب وخوف وفقر وانحلال،
وانتشر القتل والقاتل -على الأغلب- مجهول، كما تم الكشف عن بيوت دعارة وعصابات
للتجارة بالجنس، وعدد من مزارع الحشيش والمخدرات.
وظهرت شبكات لبيع الأراضي والعقارات في الضفة الغربية وبخاصة في القدس.
أما على المستوى السياسي فكانت كافة
قراراته تؤدي إلى تعميق الانقسام، وتعطل إصلاح ( م ت ف)، وتشغل الشعب بملهاة
المفاوضات، والحرب الشرسة التي يخوضها المفاوض.
عاقب عباس دحلان وفريقه، ليس بسبب
فساده أو الشكوك حوله بالمشاركة في قتل عرفات، وليس لخلاف على البرنامج السياسي
فهما على نفس النهج، وإنما لخلاف شخصي يتعلق بمصالح أبناء الرئيس، وعاقب غزة
بعقوبات جماعية مثل الإحالة المبكرة على التقاعد، وقطع رواتب المخالفين
"المتجنحين" ورواتب الأسرى والشهداء ومخصصات الفصائل الوطنية المنضوية
تحت لواء ( م ت ف ) بسبب مخالفتهم لنهجه، مما وسٌع من دائرة الرافضين لنهجه.
شكل المجلس الوطني على مقاس برنامجه
وعقده تحت حراب الاحتلال مخالفاً موقف غالبية الشعب، ورغم ذلك صدر عن المجلس
المركزي وعن اللجنة التنفيذية قرارات بوقف التنسيق الأمني وسحب الاعتراف بدولة
الاحتلال، ولكنه عطل ذلك كله.
أصر عباس مئات القرارات بعدتعطيل
المجلس التشريعي المنتخب، ومنع انعقاده، "مرسوم بقانون" من ذلك تشكيل
المحكمة الدستورية، وحل المجلس التشريعي، وحل مجلس القضاء الأعلى وتشكيله على
المقاس، وتغيير نظامه الداخلي.
كما حاولت الحكومة السابقة سنّ
"قانون الضمان الاجتماعي" ثم تحت ضغط الشارع أمر بسحبه.
كل ذلك أعطى صورة لطبيعة النظام الذي
يمكن أن ينشئه هؤلاء، كما أعطى صورة لما يمكن أن تكون عليه الدولة تحت سيطرتهم،
فلا احترام للقوانين ولا التزام بها، وهي حاضرة على الضعفاء مفقودة في حال الكبار
والأغنياء، ولا احترام لحقوق الإنسان ولا للحريات العامة، ولا تداول سلمي على
السلطة، ولا يوجد فصل بين السلطات ولا احترام لنتائج صندوق الاقتراع، ولا
إستقلالية للقضاء، ولا نزاهة لدى كثير من القضاة، وترى بعضهم يخضع للجهات
التنفيذية ويحكم لصالحها، فأين الجنة الموعودة وأين الديمقراطية "سكر
زيادة" ؟ وهل هذه هي واحة الديمقراطية والحريات؟
رأى الشعب الفلسطيني حلم الاستقلال
على حقيقته، وشاهدوا الثوار "الفدائية" والوطنيين على صورة موظفين وضباط
لا يتورعون عن أي سلوك، ولا يتعففون عن أموال الناس وأعراضهم، لقد مارسوا كل سلوك
مقيت مارسته الدكتاتوريات العربية دون مراقبة ولا محاسبة، فكره الناس
الوطن وعافوا الوطنية.
في هذه الظروف وكلما ضاقت الحياة على
المجتمع وكلما تغولت الجهات الأمنية على مؤسسات المجتمع وكلما ظهر عجز السلطة في
حلّ مشكلات الناس ظهر دور منسق شئون المناطق، وبرز دوره بصور عدة بصفة المخلص
والراعي لمصالح الجمهور، يهنئ بالمناسبات والأعياد، ويوجه رسائل التحذير للجمهور،
ويسهل المعاملات لمن يتوجه إليه، وغيرها كثير ، والذي يرجع إلى صفحته - ولم أرجع
إليها ولا أنصح بذلك-يجد الإعداد الداخلة تتزايد في تجاوز واضح لدور السلطة، لان
الناس باتوا على قناعة أن دور السلطة لم يعد سوى "وسيط فاشل بينهم وبين
الإدارة المدنية " وسيط جشع وطماع ويمارس أشكال الفساد كلها - هذا الكلام ليس
تبريراً إنما هو توصيفاً لحالة وشرح لتفاصيلها- فمن أراد السفر، أو أداء مناسك
الحج، أو تلقي العلاج في المستشفيات الصهيونية، أو حل مشاكل الاستيراد والتصدير،
أو معالجة مشاكل لدى دائرة الضريبة، أو تحصيل رخصة بناء، يتوجه مباشرة لمكتب
المنسق، تماماً كما كان الحال قبل قدوم السلطة.
صار المنسق يتوجه إلى الشعب
الفلسطيني عبر توزيع بيانات ورقية، و من خلال إرسال رسائل نصية على الجوالات، ومن
خلال مواقعه على وسائل التواصل الحديثة أو من خلال " زلمه" الذين يحضرون
ورشة البحرين ولا تستطيع السلطة معاقبتهم ولا ملاحقتهم فلديهم حصانة أمريكية.
صار المنسق يدعو لحفلات استقبال في
المناسبات والأعياد يحضرها شخصيات متنفذة في السلطة، بل أسست السلطة ملفاً أطلقت
عليه « التواصل مع المجتمع الإسرائيلي» بقيادة محمد مدني من قيادات حركة "فتح" للتواصل والتعزية والتهنئة والمباركة.
لقد صنعت أوسلو طبقة مترفة متنعمة
ومتمتعة بمزايا تجعلها تربط أمنها بأمن عدوها ومستقبلها بوجوده، والمنسق يلقي
بشباكه ويرتب الأدوار ويعالج الصعاب ويعود من بوابة "الشرعية والتمكين"!!!