قال الصندوق الانتخابي التونسي كلمته التي لم ترد في كتب الأولين، فبات
التونسيون في حالة ذهول لم تطاوعهم تفاسير علم الاجتماع إلا قليلا، وذهبوا في
تفسير ما جرى طرائق قددا؛ بين فرح بانكسار منظومة الحكم القديمة وممثلها الرئيسي
(حزب نداء تونس بكل شقوقه ومرشحيه) وممثلها الثانوي الطارئ على الحكم (حزب النهضة
الإسلامي)، وبين مغتبط بمرور مرشح من خارج كل التوقعات قيل إنه يمثل شرائح الشباب
الغاضب من الأحزاب والقوى التي أدارت الدولة بعد الثورة وفشلت في تحقيق مطالبها
الملحة.
ولن نزعم في هذه الورقة الوصول إلى تحليل جامع شامل لكل ما جرى، ولكن سننظر
في بعض جوانبه، عسى أن نفهم قبل القارئ ما جرى وما قد يكون من أثر له على العملية
السياسية الجارية في البلد بعد، وعلى إدارة الدولة في المستقبل القريب.
التصويت العقابي
هو أسرع التفسيرات التي ملنا إليها. قد لا يكون التفسير الوحيد، ولكن من
الواضح أنه تشكل رأي عام نافر من الوجوه السياسية المعهودة والمجربة منذ سنوات. لقد
جرى طرق متواصل على أذهان الناس من قبل مجموعة من الإعلاميين المنفلتين، تحركهم
ماكينة الفساد بنيّة إسقاط كل من حكم، فصار حتى ارتفاع الحرارة وانحباس الغيث من
أفعال الحكومات.
من الواضح أنه تشكل رأي عام نافر من الوجوه السياسية المعهودة والمجربة منذ سنوات. لقد جرى طرق متواصل على أذهان الناس من قبل مجموعة من الإعلاميين المنفلتين
ردة الفعل على التثبيط الإعلامي انتهت بإسقاط الأحزاب الحاكمة، ولكنه انتهى
أيضا بإسقاط الأحزاب التي لم تحكم ومرشحيها؛ لصالح من لم يحكم أبدا. خسر
الإعلاميون المحرضون رهانهم وأخسروا البلد حالة الانتقال داخل الاستمرارية، بما
وضع الجميع أمام خيارات مجهولة لا يفلح التونسيون في قراءة مصائرها حتى الآن. لقد أذهلت
نتائج التصويت في الدور الأول عقولا كثيرة، لكن النتيجة، رغم الطرق الإعلامي، فرضت
السؤال التونسي وربما يصير سؤالا عربيا: هل الانتقال داخل الاستمرارية هو الحل
الأمثل
لتجسيد مطالب الثورة؟
الثورة تراجع نفسها
لا شك في أن مستوى ما تحقق أقل بكثير مما كان ممكنا.. لقد راكم الجميع
أخطاء في الطريق، وتبين أنهم خائفون فعلا من
التغيير العميق، وأن حديث الاستمرارية
والحفاظ على كيان الدولة يخفي أيديولوجيا محافظة تخفي بدورها حالة رعب من التغيير
وتحمل كلفته السياسية والمادية. بل جنح كثيرون، ومنهم إسلاميون كانوا فقراء
وشاركوا في السلطة، إلى التكالب على منافع أتيحت لهم في غفلة، فإذا هم في ورطة أخلاقية
يبررون باسم الحفاظ على الدولة الاستيلاء (مثل من سبقهم أو اقتداء بهم) على مغنم،
وإذا الشارع في جانب كبير منه متفطن لذلك وفقد الصبر عليه، فعاقب الجميع ولكن ليس
في الاتجاه الذي أراده إعلاميو المنظومة الفاسدة، بل في اتجاه مختلف تماما، فقد تم
كنس الطاولة بطريقة ديكارتية وخلق نقطة بداية جديدة لمشروع مختلف فُرض على الجميع
الآن (من منطلق الخضوع لإرادة الشعب أو العجز عن معاكستها بروح انقلابية) انتظار مآلاته،
وهي مآلات مجهولة بالنظر إلى أن المنفذين سيكونون مجهولين حتى يسفروا عن برنامج سياسي
وخارطة طريق. حتى الآن لم نسمع من المرشح الأوفر حظا إلا شعار الشعب يريد، وهو
شعار لم يبتدعه وإنما تبناه، دون ضمانات فعلية لتحقيقه، لذلك وجب الحذر.
عندما تنتهي الهيئة من الفرز وتصدر النتائج سنجد أن سبب مرور مرشحين من 26 هو العدد الكبير، وليس تميز المرشح الفائز
الأمر أجمل من أن يكون حقيقة
يروّج البعض لصورة جميلة.. صورة الشباب الواعي الذي صحح مسار الثورة عبر
الصندوق، في مواجهة مافيات السلطة التي مارست التحقير وهمشت الفقراء. صورة جميلة
نعم، لكن ما حجم الشباب فيها فعلا؟ إن حجم التصويت لمكونات المنظومة القديمة (إذا
حسبنا كل المرشحين الآن منها) هو أضعاف مضاعفة من حجم التصويت
للفائز الأول (نصير
الشباب وقدوته)، فأين سنحسب هؤلاء؟ في الشباب أم في الكهول؟ وعندما تنتهي الهيئة
من الفرز وتصدر النتائج سنجد أن سبب مرور مرشحين من 26 هو العدد الكبير، وليس تميز
المرشح الفائز. التشتت كان الفجوة التي مر منها، وليس كفاءة البرنامج أو الخطاب. وبإمكان
الفائز أن يشكر العدد الوفير من المرشحين على حضورهم وعلى تقسيمهم للأصوات، ولكن
هذا لا يجعله فعلا مرشح الشباب الغاضب الذي يحمل من الوعي ما يجعله ينقد ما مضى
بدقة ويصوت على أساس قلب الطاولة. نعم يوجد ملل ويأس، ولكن من الضروري الحذر من
صورة بدأت تروج لأن الشباب وعى ثورته وأنه مر إلى السرعة القصوى في التغيير.
نعم هناك طلب على التغيير يستشعره المرء في مواقع كثيرة وفي حوارات مستمرة،
وهو طلب قادم من تأخر الإنجازات، ولكن بناء صورة للشباب التونسي على أنه كتلة
واعية وناخبة هي مبالغة سياسية ستتحول إلى أيديولوجيا جديدة؛ يتم بها تدمير كل
البنى السياسة الموجودة ولن تسفر عن تغيير حقيقي، خاصة إذا وجد زعيم الشباب نفسه
يدير البلد مع أحزاب العجائز التي رفضها الشباب. ولا أعتقد أنه يملك قدرة حقيقية
على قلب الطاولة عليها ولو ملك كل السلطات.
سنقول بعد أيام إن التصويت العقابي لم يكن حلا، وسنعود إلى تنسيب القول بسلطة الشباب في الاختيار. وهذا ليس تقليلا من قدرته، ولكن الاستمرارية في المؤسسات برجالاتها التي تحملت جزءا من الفشل يضمن بقاءها
نعم للتغير
سنقول بعد أيام إن التصويت العقابي لم يكن حلا، وسنعود إلى تنسيب القول
بسلطة الشباب في الاختيار. وهذا ليس تقليلا من قدرته، ولكن الاستمرارية في
المؤسسات برجالاتها التي تحملت جزءا من الفشل يضمن بقاءها برغم ما ينسب لهم من
فشل. فالوصول إلى السلطة عبر
الانتخابات هو جوهر استمرار الدولة، وليس للرئيس
القادم القدرة على الادعاء بأنه قائد ثورة، بل هو مسؤول منتخب ضمن الاستمرارية.
ودون مبالغة في تخيل ثورة قادمة يقودها الرئيس من قصره، سيتعرض الرئيس إلى
اختبار حقيقي في مواجهة آلة إعلامية فاسدة بدأت تستهدفه قبل أن يصبح فائزا رسميا،
وتحاول استباقه وتركيعه.. سيجد أن إنقاذ حكمه يمر بإلجامها، وحينها سيختبر الناس
قدرته على التوفيق بين الحرية والصرامة، مثلما أنه سيواجه نقابة شرسة هدمت البلد
والاقتصاد ولم يجرؤ أحد على المساس بها وتحميلها مسؤولية الفشل.. لن يمكنه
الاختفاء دوما خلف الحكومة المعنية الأولى بالتعامل مع النقابة، فهو المسؤول الأول
عن سلامة اقتصاد البلد بخلق سلم أهلية ضمن
الديمقراطية ليمكن للحكومة القيام
بعملها.
المستقبل ليس ورديا في تونس بعد انتخابات 2019، وتمجيد سلطة الصندوق قد
تتحول إلى خدعة أخرى تفتح أبواب الاضطراب السياسي.