شهدت الساحة العربية في أعقاب التراجع الذي ألمّ بما سُمي "الثورات العربية"؛ سيلاً من الكتابات شددت في مجملها على فشل هذه "الثورات"، واعتبرت ما نُعت ربيعا؛ خريفاً شاحبا لا روح ولا طعم فيه. واليوم، بعد أن اجتاحت هبّاتُ الاحتجاجات والجهر بالغضب بعضَ البلاد العربية في السودان والجزائر ومصر، يتجدد سؤال: هل نحن أمام مرحلة ثانية للثورات العربية؟ وهل ستكون "ثورات بروح جديدة، ونتائج مغايرة؟ وهل الشباب الذين خرجوا يجولون شوارع الميادين والساحات الكبيرة في عواصمهم وحواضرهم الكبرى هم نفس الشباب بنفس الخلفيات والآمال والتطلعات؟ أم نحن أمام شباب من نوع آخر، مختلف عن سابقه؟
كشفت شهور الحراك السلمي والحضاري في كل من السودان والجزائر أننا أمام زخم من الشباب، ذكورا وإناثا، عقدوا العزم على كسر جدار الصمت وتجاوز عَتمة الخوف، والتعبير بإرادة وشجاعة عن الاستماتة في المضي بعيدا في النضال من أجل التغيير. كما أبانت سيرورة الحراك عن وجود خزّان من الطاقات؛ القادرة على تحقيق القطيعة بين مرحلة موسومة بالاستبداد وحكم الرأي واللون الواحد، وتدشين حقبة جديدة، تكون الكلمة فيها للمشاركة الحرة والنزيهة، وسيادة إرادة القانون وحكم المؤسسات.
أبانت سيرورة الحراك عن وجود خزّان من الطاقات؛ القادرة على تحقيق القطيعة بين مرحلة موسومة بالاستبداد وحكم الرأي واللون الواحد، وتدشين حقبة جديدة، تكون الكلمة فيها للمشاركة الحرة والنزيهة
وتؤكد الوقائع أن أفقاً واعداً انفتح في السودان بعد شهور من الحراك، كانت حصيلته عشرات الموتى، ومئات المعطوبين، وأعداد كبيرة من المعتقلين والمشردين. أما في الجزائر، فالحراك أنهى أسبوعه الحادي والثلاثين، وبدأ يدنو من إتمام سنته الأولى (22 شباط/ فبراير 2019)، ولم تُصَب إرادات المتظاهرين بالفتور، أو التراجع إلى الخلف، بل بالعكس ظل حناجرهم تردد الشعارَ اللاّزمة (Leitmotif) "يرَحلُو كلهم" (أي "يرحلون كلهم")، وتطالب باعتماد مبدأ "الطاولة الجرداء" (table rase) بتنحية منظومة الفساد السائدة منذ عقود، وإقامة منظومة جديدة، تتوافق مع تطلعات الجزائريين، وتعوّضهم عن سنوات التحكم التي ضغطت بكلكلها على صدورهم وعقولهم.
وقد أبانت لنا الوقائع هذا الأسبوع أن إرادة الشعب
المصري لم تمت، وأن جذوة النضال والتطلع إلى التغيير ما زالت متقدة، وحية، ومستمرة، وأن الشباب الذي أطلق ثورة يناير 2011 قادر على النهوض من كبوته وإحياء روح
الثورة من جديد.
أبانت لنا الوقائع هذا الأسبوع أن إرادة الشعب المصري لم تمت، وأن جذوة النضال والتطلع إلى التغيير ما زالت متقدة، وحية، ومستمرة
نحن في الواقع أمام تصادم إرادات في مجمل البلاد العربية.. تصادم بين إرادة التغيير نحو الأفضل، وإرادات تريد لواقع الاستبداد والتحكم أن يدوم، وتتعمق جذوره في عقول الناس ونفوسهم، وفي الاقتصاد، وفي كل ما له صلة بحياة الناس وظروفهم الاجتماعية. ولأن التصادم، كأي تصادم، محكوم بطبيعته بميزان القوى، وأوزان الأطراف المتصادمة والمتصارعة حول إعادة بناء المعنى في السياسة والاقتصاد والثقافة والفكر، فقد أخذ اتجاه التصادم مناحي منحرفة عن بدايات مساراته، بسبب تضافر عوامل داخلية وإقليمية ودولية، فتحول من " ثورة" إلى "ثورة مضادة"، ومن "ربيع" مزهر إلى خريف ذابل لا روح فيه.
كيف نقرأ الموجة الثانية من الحراك العربي؟ وهل ستكون هذه المرة لصالح قوى التغيير في تصادم الإرادات؟ أم سيكون أفقها شبيها بمآل سابقتها؟
لا نستطيع الإجابة بالجزم والموثوقية عن الآفاق التي تنتظر موجة الحراك العربي الثانية، لكن يمكن التأكيد على أهمية المتغيرات الجديدة المصاحبة لهذه الموجة والمؤثرة بشكل عميق في سير وقائعها، والتي يمكن الاستناد عليها لتوقع مشاهد للتطور القادم في المنطقة العربية.
لا نستطيع الإجابة بالجزم والموثوقية عن الآفاق التي تنتظر موجة الحراك العربي الثانية، لكن يمكن التأكيد على أهمية المتغيرات الجديدة المصاحبة لهذه الموجة والمؤثرة بشكل عميق في سير وقائعها
يتعلق المتغير الأول بالتطور العميق السائر في السودان والجزائر، حيث أكدت الوقائع بداية سير السودانيين على طريق نزع روح " العسكرة" من حياتهم السياسية، والاستعداد للانعطاف إلى حكم مدني، محكوم بثقافة سياسية مدنية، خلافا لما استقرت عليه الممارسة منذ خمسينيات القرن الماضي، مع وعي بصعوبات الانتقال من نمط حكم عسكري إلى آخر مدني، يشارك الناس بإرادة وحرية في بنائه.
وفي الجزائر، أصبح واضحا عدم تململ المؤسسة العسكرية في اتجاه التخلي، أو التنازل التدريجي عن قبضتها تجاه مطالب الحراك الاجتماعي وتطلعات أنصاره، ومع ذلك يبدو أن الانتصار في النهاية سيكون للمشروع الديمقراطي، الذي تبلورت معالمه منذ بداية التظاهر في 22 شباط/ فبراير من هذا العام.
ويحيل المتغير الثاني على أن قطف ثمار ثورة يناير 2011 في مصر عُنوة لن يكون مقبولا بسهولة في مجتمع يجر وراءه آلاف السنين، ويضم نخبا سياسية وفكرية وثقافية متجذرة في التاريخ، وله موقع استراتيجي في قلب البلاد العربية. كما يدل على أن مؤسسة الجيش، التي استغاثت بها شرائح واسعة من المجتمع المصري، لم تكن في مستوى تطلعات أغلبية المصريين، أو على الأقل فئات متنفذة في هرم هذه المؤسسات، وأنها لم تشذ عن من سبقوها، إن لم تكن أكثر إضرار بالمصالح العليا للبلاد من غيرها.
ويتعلق المتغير الثالث بالتطور الإيجابي والعميق الجاري في تونس، والذي كان له، وسيكون له الأثر البالغ على تطور الموجة الثانية من "ثورات الربيع العربي". فقد أصبحت تونس، على الرغم من التحديات والصعوبات التي تعترض مسيرتها، نموذجاً جذابا وجاذبا لما يجري في المنطقة العربية، كما أصبحت تراكماتها في مجال الانتقال الديمقراطي وتوطيد مؤسساته؛ مرجعية للمقارنة والبرهنة على أن التغيير الديمقراطي ممكن في السياقات العربية. لذلك، سيكون لنجاح ما يجري في تونس أكثر من تأثير إيجابي على البلاد العربية، وسيساعد على تقديم الدعم المعنوي والسياسي لفك معادلة تصادم الإرادات؛ لصالح مشاريع التغيير نحو الأفضل.