تناولنا في مقالنا السابق طرفا من حادثة رجم ماعز، وبعض الإشكالات التي تدور حول الحادثة، وهناك إشكالات أخرى، نقف معها.
جهل ماعز بالعقوبة:
هل كان ماعز يعلم عقوبته، أم كان جاهلا بها؟ اختلفت الروايات في جهله بالعقوبة، والتي انتهت بالقتل رجما بالحجارة، فهناك روايات وردت تفيد بعلمه بالعقوبة، مثل: حديث بريدة فقد وردت فيه عبارة توهم بأنه كان يعلم عقوبته، وهي نقاش الصحابة الحاضرين بعد رجمه، واختلافهم في شأنه: "فأمر به فرجم، فكان الناس فيه فرقتين، قائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني بالحجارة". فعبارة: ثم قال: اقتلني بالحجارة، قد يفهم منها أنه كان يعلم بعقوبته وجاد بنفسه، ولكن الصيغة هي حكاية عن مآله، وليس حكاية عن معرفته بحاله، وما سيؤول إليه.
وكذلك رواية أبي بكر رضي الله عنه، فيها تصريح بأن أبا بكر أخبره بأن حده الرجم، وفيها: "فاعترف الثالثة فرده، فقلت له: إنك إن اعترفت الرابعة رجمك" فعبارة: (إنك إن اعترفت الرابعة رجمك)، تصح دليلا محتملا على معرفة أبي بكر رضي الله عنه بالرجم كعقوبة، قبل ذهاب ماعز لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه تشريع قبل حادثة مالك، لكن الحديث ضعيف، فسقط الاستدلال به في هذه المسألة.
هل يعاقب الجاهل بالعقوبة على فعلها؟ وإذا كان هو الحالة الأولى في التشريع ألا يخفف عنه، ويعذر بجهله بالعقوبة؟ وهو ما اختلف فيه الفقهاء
لكن الثابت من الأحاديث والروايات الصحيحة: أنه كان جاهلا بالعقوبة، وأنه غرر به ليذهب ليعترف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعله أن يستغفر له، فهناك أحاديث تبين أنه لم يكن يعلم بعقوبته، وهو ما يتضح من هربه، ومن قوله ـ كما يحكي جابر بن عبد الله ـ عندما وجد مس الحجارة وقد صرخ فيهم: يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قومي قتلوني، وغروني من نفسي، وأخبروني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتى قتلناه.(1)
فالحديث هنا يثبت أنه لم يكن يعلم ماعز بأنه سيعاقب بالرجم، بدليل نص الحديث: أن هزالا خدعه. وهو أمر ينبغي نقاشه: هل يعاقب الجاهل بالعقوبة على فعلها؟ وإذا كان هو الحالة الأولى في التشريع ألا يخفف عنه، ويعذر بجهله بالعقوبة؟ وهو ما اختلف فيه الفقهاء، ولكنها نقطة مهمة في نقاش الموضوع.
عفو الرسول عن معترف بالزنا بنفس عبارات ماعز:
والعجيب أن إحدى روايات الحديث بينت أن ماعزا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أصبت فاحشة، فأقمه علي.(2) ولم يبين نوع الفاحشة. بينما في أحاديث أخرى تبين أن من اعترف بفاحشة دون أن يحددها، لا يقام عليه الحد، ما دام قد تاب، فعن أبي أمامة، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ونحن قعود معه، إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا، فأقمه علي، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعاد فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا، فأقمه علي، فسكت عنه، وأقيمت الصلاة، فلما انصرف نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: أبو أمامة: فاتبع الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف، واتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ما يرد على الرجل، فلحق الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا، فأقمه علي، قال أبو أمامة: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت حين خرجت من بيتك، أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء؟ "قال: بلى، يا رسول الله قال: "ثم شهدت الصلاة معنا" فقال: نعم، يا رسول الله قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن الله قد غفر لك حدك، أو قال: ذنبك".(3)
وفي رواية أخرى قال: "إني أصبت حدًّا فأقم علي كتاب الله".(4) فهي نفس عبارة ماعز التي وردت في بعض الروايات الصحيحة في اعترافه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفس ما دار من هذا الرجل، هو نفس حوار ماعز، فلماذا رجم ماعز، وترك الرجل في هذا الحديث؟
هل كان رجم ماعز تنكيلا به؟
إن في بعض روايات رجم ماعز، بينت أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعد رجمه قام خطيبا من العشي، فقال: "أو كلما انطلقنا غزاة في سبيل الله تخلف رجل في عيالنا، له نبيب كنبيب التيس، علي أن لا أوتى برجل فعل ذلك إلا نكلت به"(5) وفي رواية: "ما بال أقوام إذا غزونا تخلف أحدهم في عيالنا له نبيب كنبيب التيس، أما إن علي أن لا أوتي بأحد فعل ذلك إلا نكلت به".(6)
فهل كان رجم ماعز عقوبة ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، أم كانت تعزيرا زائدا منه تنكيلا منه لماعز، لأنهم خرجوا للغزو فإذ به يزني، ففي رواية: قال تخلف رجل في عيالنا، ويؤيد ذلك عدم معرفة ماعز أو الصحابة بعقوبته، فلو كان الرجم هنا عقوبة للزاني المحصن، فلن تفرق في الحكم هل زنى والنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في الغزو أم في المدينة، لأن العقوبة واحدة، لكن من دلالات هذه الصيغة أنها عقوبة تنكيلية زائدة، أو يفهم منها هذا.
(مما يعني أنه شدد جدا في عقوبة ماعز لأنه خان رجلا مجاهدا في سبيل الله، وليقطع دابر فتنة ومفسدة كانت موجودة. فهل لنا أن نقول: إن لها سببا خاصا مع الزنى؟ وأنه أراد أن يقطع دابر المفسدين هؤلاء، وهذا فيه إشارة أخرى أن ذلك كان في بدايات العهد النبوي في المدينة، وقبل أن يستتب كمال الإيمان والأمن في المدينة).(7)
ولعل ما يقوي هذا ويعضده: ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه، رغم صلاته فيما بعد على الغامدية.
متى كان رجم ماعز؟
دل هذا الحديث على أن رجم ماعز والغامدية كان قبل نزول آية سورة النور، فقوله: (انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، عسى أن ينزل فيك قرآن) دلالة على أنه لم يكن هناك قرآن قد نزل في شأن العقوبة، والمعلوم أن القرآن الذي نزل في العقوبة هو الجلد في سورة النور، وهو ما ينفي ما يدعيه من يستشهدون برجم ماعز والغامدية أنه كان بعد سورة النور.
الهوامش:
1 ـ رواه أحمد (15089) عن جابر بن عبد الله، وحسن إسناده محققو المسند (23/314)، ورواه أبو داود (4420) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/62،61).
2 ـ رواه مسلم في
الحدود (1694) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
3 ـ رواه مسلم (2765) عن أبي أمامة.
4 ـ رواه أحمد (22163) والنسائي في الكبرى (7316) عن أبي أمامة، وقال محققو المسند: حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل عكرمة بن عمار العجلي اليمامي، فهو صدوق حسن الحديث، وقد توبع كما سيأتي في الرواية (22286) ، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح (36/491).
5 ـ رواه مسلم (1694).
6 ـ رواه ابن حبان (4438) وصححه الألباني في الإرواء (7/256،255).
7 ـ انظر: سلسلة مقالات: منهجية التعامل مع السنة النبوية للدكتور محمد سعيد حوى الحلقة (36).
8 ـ انظر: العقوبات التي استقلت بتشريعها السنة النبوية للدكتور محمد أنس سرميني ص: 423.
Essamt74@hotmail.com