الكتاب: الأنوات المشوهة.. مقاربات في التنوير والمعرفة واللغة
المؤلف: رامي أبوشهاب
دار النشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر/2019
يناقش الباحث والناقد رامي أبو شهاب مجموعة من التساؤلات الثقافية تتعلق بشكل أساسي بتقييم "مخرجات النهضة والتنوير على مستوى الإنتاج المعرفي" في العالم العربي، التي يصفها كما هو واضح من عنوان الكتاب بـ "المشوهة" نتيجة صدورها عن مشاريع مرتبكة بالأساس خرجت عن المسار المفترض لها، بدءا من مشروع النهضة العربية في القرن التاسع عشر وانتهاء بالربيع العربي.
النهضة العربية كما التنوير لم يكتب لهما التحقق بالفعل، بحسب ما يجادل الباحث، فكل ما شهدته المنطقة بعد خروجها من حقبة الاستعمار هو "مجرد تحديث على مستوى الأدوات والوسائل... في حين أن المنهج والعقل لم يتمكنا من التخلص من ارتهاناتهما العميقة". لذلك يعرض الكتاب في موقع آخر لـ "الاختلالات" و"الإشكاليات التي طاولت النهضة العربية وتنظيرها المجهض في الأصل، كما على مستوى التطبيق".
الثقافة العربية لم تؤسس مجتمعات معرفية بقدر ما كانت حاضنة للمعرفة أو التجربة "لا بوصفها نتيجة.. فكيف يمكن أن تنتج المعرفة في ظلال القمع، وانعدام الأسئلة، والحرية
كما يقدم الباحث قراءة نقدية في معنى القيم المعرفية في العالم العربي في ما يتصل بعملية البحث العلمي، وما أسماه الانهدام على مستوى إنتاج المعرفة. وفي الجزء الأخير من كتابه يحلل "ظواهر خاصة باللغة العربية في إطار تاريخي ثقافي، انطلاقا من أثرها ووظيفتها في بعض السياقات المعاصرة". وهي كما يراها لغة تعيش انكسارا حضاريا يقود بصورة ما إلى"تشوه الأنا المتصلة بها".
إطلاق العقل
يعزو رامي أبو شهاب الحداثة الغربية لفعل النهضة وما لزم ذلك من إطلاق للعقل، بعكس ما جاءت عليه النهضة العربية التي "انطلقت من فعل التقليد والرغبة بالتحديث نتيجة الإعجاب بالمنجز الأوروبي، وبذلك فهي عملية لم تتولد من واقع معاين.. إنما من واقع ملاحظ ينبغي الاقتداء به، وبهذا فقد أتت.. بوصفها مجالا للتأثر.. كانت مشوهة وغير منجزة، لا سيما أن اكتشاف الذات (لم يأت من) وعي بالأنا".
في هذا السياق يتوقف الباحث عند دور بعض رواد النهضة العربية، مثل جمال الدين الأفغاني، وخير الدين التونسي، وعبدالرحمن الكواكبي، وبطرس البستاني، ومحمد عبده وطه حسين وغيرهم، ويخضع مساهماتهم للمساءلة معتبرا إياها عاملا من عوامل انحراف النهضة عن تحقيق هدفها المتمثل بالتنوير، مرجعا ذلك إلى "ما عاناه المثقفون العرب من أزمة نموذج، فضلا عن عدم القدرة على اجتراح حلول عقلية تنهض على منهجية واضحة، بالتوازي مع (ارتهانهم لمرجعيات مختلفة).. أهمها السلطة السياسية، أو مؤسسة الحكم، بالإضافة إلى الارتهان للخطاب الديني، أو الطائفي، علاوة على محاولة تمثل النموذج الغربي بمعزل عن سياقاته، وأخيرا تعالي النزعة الذاتية التي تسللت إلى بعض جهود هؤلاء المثقفين".
يقول أبوشهاب: "إن صفة المثقف الحقيقي الذي يمتلك مخاضه الخاص، ويعمل على تفعيل العوامل العقلية بهدف خلق منظومة فكرية لا تعمد إلى استلهام نموذج الأقوى، أو استحضار الماضي الأقوى، لا تنطبق على رجال عصر النهضة العربية نظرا لاتسامهم بالحيرة والارتباك الذين صبغا أفكار الجيل الأول والثاني".
ويضيف حول أحد هؤلاء؛ رفاعة الطهطاوي مشيرا إلى أنه في المحصلة كان موظفا يتبع المؤسسة الحاكمة، بل إن مشروعه التحديثي كان مقصورا على مصر وحدها، ولهذا فإن فعل التحديث كان وليدا للحاجة إلى تحديث الدولة والسلطة التي يرتبط بهما، وهو يفصح عن ذلك في كتابه "المقاصد" عندما يعتبر سياسة محمد علي في إرسال البعثة شكلا من أشكال تمكين الدولة عبر استجلاب العلوم النافعة وتقليد النموذج الغربي، من أجل تقوية والإبقاء على سلطة الدولة الممثلة بمحمد علي باشا، لا من أجل النهوض بالإنسان، وصون كرامته وإنسانيته.
تلوث ثقافي
تحت عنوان "إشكالية الآخر: ثقافة الاتصال والانفصال"، يؤكد الباحث أن مفهوم الثقافة ومعنى الآخر بدا على الدوام قلقا لدى المثقفين العرب، "حيث تحول الآخر إلى نقيض الأنا لدى مالك بن نبي، في حين جعل طه حسين من الأنا امتدادا في الآخر، فالانتقال من ذلك الجانب إلى ذلك الجانب من شأنه أن ينزع إشارات النقص، في حين أن مالك بن نبي قد أقام حدودا وأسوارا عالية كي يجعل من الأنا تلك الأنا، ومن الآخر ذلك الآخر، وليجعل من الشخصية المسلمة تلك الجزيرة التي ينبغي أن تدرك اختلافها بما انكشف لها من قدرة على استشعار تلك المناطق المظلمة في دواخلها".
ويضيف: أن الثقافة العربية أقرب ما تكون إلى "منتج قلق" بسبب أنها تدين لمرجعيات متعددة ومتباينة، الأمر الذي ينعكس بدوره على الخطاب ومسلكه التواصلي بين المثقفين والعامة. وسنجد أنه بدءا من القرن العشرين وحتى يومنا هذا اتسم هذا المنتج إما بالغموض بحجة الجدة والعمق وبتوجهه إلى النخبة، أو بالسطحية والابتذال والتهافت بحيث تجاسر على الاشتغال بالثقافة من لا يملك من أدواتها شيئا، سيما مع توفر وسائل التواصل الافتراضي في وقتنا الحالي.
مفهوم الثقافة ومعنى الآخر بدا على الدوام قلقا لدى المثقفين العرب، "حيث تحول الآخر إلى نقيض الأنا لدى مالك بن نبي، في حين جعل طه حسين من الأنا امتدادا في الآخر
يتوقف الباحث مطولا عند مفهوم " التلوث الثقافي" ويجده حالة مستشرية في المنطقة العربية، ويرى أن أي مراقب جيد سيلاحظ مقدار التشوهات التي طالت العقل العربي سيما في الربع الأخير من القرن العشرين، "فمع نشوء الدولة المستقلة بدأت عملية إنتاج الثقافة ضمن تصورات السلطة والقوى المهيمنة للنخب الحاكمة.. فمع غياب أي مظهر من مظاهر الرقابة والعدالة تم التلاعب بالعقل العربي لحساب تكريس أنماط من التفكير، والذاتوية، والمصلحة" بحيث أقصي المثقف الحقيقي لصالح المثقف الزائف أو مدعي الثقافة الذي يتبنى أيديولوجية السلطة".
وبحسب أبو شهاب فإن من مظاهر التلوث الثقافي أيضا خسارة "مركزيات الثقافة العربية" لموقعها ودورها في صياغة مشروع النهضة العربية، "فالقاهرة وبغداد ودمشق وبيروت تعاني من فرط الحروب، علاوة على الأوضاع الاقتصادية، وغياب التخطيط الاستراتيجي لصوغ مشروع نهضوي حقيقي، ولا سيما في ظل الصراع الطائفي والانقسام السياسي، وهذا أدى إلى أن تتحول الثقافة العربية إلى ثقافة هامشية، فضلا عن تراجع اللغة العربية ودورها الحضاري".
مراهقة حضارية
عن حقيقة امتلاك المعرفة يعقد الباحث مقارنة سريعة بين بعض دول شرق آسيا التي امتلكت آليات المعرفة، و"أحدثت تغييرا في أنماط وجودها، فاستحوذت على زمام المبادرة في تشكيل أنظمتها السياسية والاقتصادية والثقافية"، وبين المنطقة العربية التي سقطت عقليتها في استجلاب المعرفة من دون طرائقها.
يقول: "المتأمل في تجارب النهضات الاقتصادية كافة التي قصدت سبل المعرفة بوصفها أداة، يلاحظ بأن معظمها قد تعلم درس المعرفة أو الطريق إلى المعرفة في حين أن الأمم التي حاولت أن تنظر إلى المعرفة بوصفها شيئا ماديا لتحقيق التحديث، قد ضلت طريقها نظرا لخلل في المنهج والفهم كما السياقات".
إشكالية إنتاج المعرفة في العالم العربي تكمن في محاكاتها لأنساق الحكم والإدارة، فهي ذات طبيعة متوارثة، أو رعوية أو قبلية وطبقية
وبحسب أبو شهاب فإن الثقافة العربية لم تؤسس مجتمعات معرفية بقدر ما كانت حاضنة للمعرفة أو التجربة "لا بوصفها نتيجة.. فكيف يمكن أن تنتج المعرفة في ظلال القمع، وانعدام الأسئلة، والحرية!".
ويضيف بأن إشكالية إنتاج المعرفة في العالم العربي تكمن في محاكاتها لأنساق الحكم والإدارة، فهي ذات طبيعة متوارثة، أو رعوية أو قبلية وطبقية، ليس ثمة مسارات جديدة أو منطلقات مختلفة تضيء على أفكار وعوالم مغايرة. "نحن لا نجد توجها حقيقيا نحو المعرفة بالمفهوم المطلق، أي تلك المعرفة الراغبة باكتشاف الآخر أو الأنا، والحدود،.. والأهم من كل ذلك افتقادها لفكرة التأمل، والمراجعة الذاتية، أي وجود الأهداف.. هنا نقع على مفارقة بأن المؤسسات العربية لا تحسن استثمار طاقاتها التي تتبخر في ظلال هيمنة النخب، وحالات النفاق، والمجتمعات القبلية.. التي تعد شديدة التأصل بمختلف بقاع العالم العربي". في هذا السياق يصف الباحث الإنتاج الأكاديمي العربي بالبطيء والمترهل، فمعظم البحوث الصادرة عن الجامعات والمؤسسات البحثية "ذات طبيعة انتقائية، وشارحة، بل هي فعل تجميع وتلخيص كما هي أبحاث طلاب المدارس.. وليست ذات طبيعة تأملية"، مشيرا إلى أن المشكلة الأساسية تكمن في فهم فلسفة البحث ودوره الوظيفي، الذي يجب أن يستكشف ما هو غير موجود أو غامض.
إننا نعيش طفولة معرفية عربية، كما يقول، أو مراهقة حضارية، لم تفهم بعد عمق الأزمة " التي لا يمكن أن تحل ببعض المؤتمرات، وترجمة بعض الكتب كما في إنشاء يعض المؤسسات. إننا نحتاج فلسفة عميقة الجذور، وأهمها الإيمان بقيمة بناء مناخ ديمقراطي فاعل كي نتخلص من تراجعنا إنسانيا.. نحن في خانة الأقوام السلبية التي تتوق إلى الهجرة نحو الديمقراطية الغربية كونها تحترم الإنسان، وتصون حقوقه، لكننا في أوطاننا لا نقبل إلا أن نكون سلبيين، قمعيين. ولهذا بتنا في فعل إبحار، وهروب إلى الغرب، نموت على شواطئه هربا من جحيم عقولنا".