ينظر العراقي لانتفاضته الجارية الآن نظرة خاصّة به، تنطبق على أوضاعه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتحيط بتاريخه القريب، وتحوّلاته الحادّة، وأحداثه الجسيمة، وما ينطوي عليه من آمال ظلّت تتكسّر على طوله، وصولا إلى الانتفاضة الجارية، والتي لم تكن الأولى من نوعها في الفترة القريبة. وهذه النظرة ومن زاوية العراقي، ليست نظرة سياسية مؤدلجة خالصة، إنما هي نظرة الإنسان، بآماله وانكساراته، وأوجاعه وجراحاته، الإنسان الذي يضيق به وطنه، وتُصادِر حياتَه؛ طاحونة الساسة الطامحين والفاسدين، على حدّ سواء.
أمّا الساسة وأحزابهم، في حدود العراق وخارجه، فنظرتهم مفصّلة على مقاس طموحاتهم عينها التي تعيد تصنيف الإنسان/ الفرد عدوّا ما دامت حاجته، وصرخته الموجوعة، تتعارض مع المشاريع الخاصّة بالأحزاب والدول، ومع مطامح الساسة المغمّسة في الفساد.
بين هاتين النظرتين: نظرة العراقي المنتفض الخالصة في مطالبها الإنسانية من حيث هي إنسانية، ونظرة القوى السياسية والحزبية ذات الشأن التي تُدوّر الإنسان في مَصْهرها الخاصّ.. ثمّة نظرة أخرى تحاول فهم الحدث في سياق تاريخي وجغرافي أكبر. فالانتفاضة العراقية لا تنفكّ عن المشهد العربي والإقليمي العامّ، وإذا كان العراق قد بدا بعيدا، نسبيّا، عن حمأة الثورات العربية وتداعياتها، سوى الحرب على "داعش" رغم فداحتها ومشهديتها الجسيمة، فإنّه في حقيقة الأمر حجر زاوية في المشهد العربي الحالي.
الانتفاضة العراقية لا تنفكّ عن المشهد العربي والإقليمي العامّ، وإذا كان العراق قد بدا بعيدا، نسبيّا، عن حمأة الثورات العربية وتداعياتها، سوى الحرب على "داعش"
تاريخيّا، تأتي حرب الخليج الثانية عام 1991، حلقة في سلسلة التحوّلات الممتدة، والموجات الكبرى الآخذة في إعادة تشكيل العربي، إنسانا وكيانا، وهي الموجة التي كانت من أول ما أزاح الجمود عن طبيعة التشكّلات والعلاقات العربية، وحفرت في عمق حقيقة الدولة العربية، دولة ما بعد الاستعمار، لُتستكمل بموجة أخرى هزّت أغوار الوجدان العربي، وفتحت المنطقة على إعادة تشكيل مستمرّ، أي احتلال العراق في العام 2003. وبالنظر إلى الارتباط العربي العاطفي والوجداني بالعراق ودوره القومي، فلا ينبغي إغفال دور هذه الانكسارات في تفجير أوجاع الإنسان العربي، في ثوراته التي جاءت بعد بضع سنين، ناجمة عن أسباب أخرى بالتأكيد.
احتلال العراق في العام 2003، فتح بوابات السيولة، وانعدام الاستقرار فيه، ثمّ في المحيط، فمنذ تلك اللحظة والأحداث تتولّد من تربة العراق حتى الساعة بلا توقّف، فلم يمض وقت طويل بعدُ على تدمير الموصل بالكليّة، وانكشاف الصورة عن تداخل مصالح المتناقضين في العراق، المحلّيين والدوليين والإقليميين، وفي صدارتهم الولايات المتحدة وإيران. فـ"داعش" ظلّت في مرحلة تعاظم من تلك اللحظة حتّى تدمير الموصل، وكذا القوى الجهادية الأخرى، التي دخلت على خطّ الثورة السورية، وساهمت في إعادة تشكيل الجغرافيا العربية، ووضع مصير الدولة العربية موضع الشك.. بقوّة ووضوح.
يُشكّل العراق اليوم، ومن قبل من بعد الاحتلال، نقطة تجاذب القوى الإقليمية الكبرى، إيران وتركيا، وتداخلت سياسات جيرانه معه، من بعد الاحتلال، كما في حالة سوريا والسعودية
يُشكّل العراق اليوم، ومن قبل من بعد الاحتلال، نقطة تجاذب القوى الإقليمية الكبرى، إيران وتركيا، وتداخلت سياسات جيرانه معه، من بعد الاحتلال، كما في حالة سوريا والسعودية. واليوم تمدّ "إسرائيل" حزامها الأمني إليه عمليّا، وقد فعلت من قبل، كما في تدمير مفاعله النووي "تموز" في شباط/ فبراير 1981، ثم في شنّ حربين عليه بقيادة الولايات المتحدة لصالح "إسرائيل" قبل كل شيء، وبغطاء عربيّ، وهو ما كسر السدّ أمام
التمدد الإيراني الذي نافس الولايات المتحدة بجدارة على النفوذ في العراق، وبلغ سوريا فعلا وتأثيرا، وانخرط في مواجهة الثورة السورية، ضمن حالة معقّدة ومركّبة من تناقض المصالح بين مجمل القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، وهو الأمر كذلك (أي الحروب الأمريكية على العراق، لصالح "إسرائيل" وبغطاء عربي) الذي ضرب في هيبة الدولة العربية وأنظمتها الحاكمة، وفي مصداقيتها واستقلاليتها بالتأكيد.
عدم استقرار العراق حتّى اللحظة، منذ ستة عشر عاما، وهذه الانتفاضة الجارية، لا يعني اقتصار انعدام الاستقرار عليه وحده، فهذا التداخل التاريخي والراهن، بين العراق والمنطقة العربية، مع ضجيج هذه المنطقة بالأحداث الهائلة وغياب اليقين عنها وإطباق الغموض عليها، ثم تداخل دولها في أحداثها، واتصالّ ذلك كلّه بالقوى الكبرى، يعني أنّ المنطقة كلّها بعيدة عن الاستقرار، وأنّ نهر التحولات لم يبلغ منتهاه بعد.