يحيل مفهوم الالتزام
إلى دلالات فلسفية وأخلاقية واجتماعية. وتنهض فكرة الالتزام، في حقلها الفني على
الارتباط بقضية اجتماعية أو سياسية يلتزم بها الكاتب في تصوره للمجتمع والحياة.
فهي تتأسس على العلاقة الوثيقة بين الفن والمجتمع، والتأكيد على الدور الاجتماعي
للأدب وإسهامه في معركة اليقظة والنهوض من خلال التعبير عن القضايا السياسية
والاجتماعية والقوميّة، وتجسيد الواقع بشتى قضاياه ومشكلاته.
يرتبط مفهوم الالتزام
في الأدبيات الماركسية بالأيدلوجيا، حيث يلتزم الكاتب بالدعاية للحزب والطبقة،
والانخراط في العمل النضالي من خلال التعبير عن الجماعة. وتغدو المهمة الملقاة على
عاتق المبدع قيادة الناس نحو الثورة من أجل تحقيق المساواة والحرية.
ومعلوم أن سارتر،
بتأثير من الماركسية، صاغ فكرة الالتزام ووسع حدودها لتغدو قضية كيانية غايتها
الأساسية الحرية الإنسانية، التي تمكّن الكاتب القيام بمسؤوليته في تغيير مجتمعه
وعالمه، من خلال تصوير الصراع الإنساني الدائر في عصره. ويوضح تصوره للأدب الملتزم
بقوله: "مما لا ريب فيه أن الأثر المكتوب واقعة اجتماعية، ولا بد أن يكون
الكاتب مقتنعا به عميق اقتناع حتى قبل أن يتناول القلم. إن عليه، بالفعل، أن يشعر
بمدى مسؤوليته، وهو مسؤول عن كل شيء: عن الحروب الخاسرة أو الرابحة، عن التمرد
والقمع. إنه متواطئ مع المضطهِدين، إذا لم يكن الحليف الطبيعي للمضطهَدين"، حيث
إن الكاتب، برأيه، ليس " إنسانا منطويا على نفسه في عالم لا قيمة فيه لسوى
مصيره الفردي، ولكنه يؤلف وحدة لا تتجزأ مع العالم الذي يعيش فيه، وعمله الأدبي ذو
هدف في ذلك العالم الذي يحيا فيه".
وغاية الالتزام، هنا،
الكشف عن الواقع، والمشاركة الإيجابية في عملية التغيير الاجتماعي ومحاولة وضع
المجتمع في مسار التغيير والتحرر الشامل. ولذلك فإن الكاتب الملتزم يضطلع بمسؤولية
اجتماعية وإنسانية تستدعي منه الانخراط الواعي في إشكاليات الواقع وعدم الانكفاء
عنها. وبهذا يمثل الواقع الاجتماعي
الأرضية الصلبة التي يقف عليها الفنان من خلال التزامه بقضاياه وإشكالياته. بيد أن
فكرة الالتزام لا تعني أن يتحول الفن إلى أيدولوجيا، بمعناها السياسي أو الفكري أو
الطبقي، على الرغم من أن للفن علاقة بالأيدولوجيا، فالفنان يعبر عن وضع اجتماعي
وموقف تاريخي محددين مرتبطين بوعيه ورؤيته للعلاقات الاجتماعية والصراع الذي يشهده
الواقع، وبالتالي فإنه لا يقدم نسخة مطابقة لهذه الأيدولوجيا، وإنما يعبر عنها من
منظوره الخاص.
وقد تصدى (النقاد
الجدد) لفكرة الالتزام، في سياق موقفهم المضاد للماركسية، وأنكروا اعتبار العمل
الفني وسيلة من وسائل الدعاية لفكرة أو تأدية رسالة اجتماعية أو أخلاقية أو دينية
وينطوي تصورهم على تخليص الشعر من مضمونه
السّياسي والأيديولوجي، وتحريره من التّبعية لأي مذهب فكري، والتركيز بدلاً من هذا
على العمل الفنّي. كما أنّهم ينفون اعتبار تأدية الدّور الاجتماعي أمرًا يلتزمه
الشّاعر بحكم خضوعه لتأثير سياسي وأيديولوجي، فهو قرار شخصيّ يمليه عليه واجبه الإنساني والإبداعي، فمسؤولية
الشّاعر والتزامه مرهونان بإخلاصه لتجربته الفنيّة و تحقيق شروطها الإبداعيّة.
اقرأ أيضا: الشاعر علي النوباني ومواجهة الوجود
فرضت الظروف السياسية
المهيمنة على الواقع العربي، والفلسطيني على وجه الخصوص تبني فكرة الالتزام. تبعا
لذلك، انطوى أدب المقاومة في فلسطين، على المضمون السياسي والاجتماعي، وعلى "
الترابط العضوي بين مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وبين قضايا التحرر في البلاد
العربية وفي العالم. وعلى هذه الجبهات جميعها، بكل تعقيداتها، خاض أدب المقاومة في
فلسطين المحتلة معركة التزاماته".
برز مفهوم الالتزام في
الساحة الأدبية العربية، بشكل أوضح، مع مجلة الآداب البيروتية، التي تبنت شعار
"الأدب الملتزم" وفقا لتصور سارتر. وشهدت ساحات الفكر العربي جدلا واسعا
وخصوصا في النصف الثاني من القرن الماضي، اتخذ في كثير من الأحيان، طابعا
أيدولوجيا ؛ بسبب بروز التيارات الفكرية متعددة المنطلقات والتوجهات.
كما تعرضت فكرة
الالتزام إلى الانتقاد، من النقاد الجماليّين العرب ،حيث ارتبطت لديهم بهيمنة
المضمون السياسي على حساب الفني. وقد دعا هؤلاء النقاد إلى ضرورة أن يكون الملتزم
مبدعا أوّلا، فقد رأى جبرا، في الالتزام تبسيطا لقضية الأدب واجتزاء لها. فقضية
الأدب، برأيه، هي الإنسان، والسؤال الذي يطرح ليس عما إذا كان الأدب ملتزما أم لا،
بل عما إذا كان جيدا أم رديئا. ويذهب يوسف الخال، بتأثير من النقاد الجدد، إلى أنّ
الالتزام، بمفهومه السائد، يتعارض بشكل جذري مع المفهوم الحديث للشعر، وأنه "
ليس سوى تأثير مضر بالفن ومشوه للحقيقة، فوظيفة الشعر ليست بالكفاح السياسي".
وبهذا المعنى " فالدّاعون إلى تسخير الأدب في عمليّة البناء يسيئون إلى الأدب
والفن، ويسلبون عمليّة البناء ذاتها من روحها الدّافع و الموجه و الواقي ".
ولا شك في أن الاحتفاء
المتزايد بفكرة الالتزام في النقد العربي نابع من الواقع الاجتماعي والسياسي
المتدهور، وعدم توفر الشروط الإنسانية للمواطن العربي التي تضعه في السياق الحضاري، مما يستدعي
التشديد على الدور الاجتماعي للشعر والأدب على وجه العموم ، والاضطلاع بالتنوير
الاجتماعي، ورفض انعزال الأديب في برجه العاجي . وعلى الرغم من مرور عدة عقود على
ظهور مفهوم الالتزام في النقد العالمي، فإن آثاره ما تزال سارية المفعول عند جزء
من الكتاب، ولكن بفهم مغاير. وتتعزز سيرورة حضوره في النقد العربي في ظل المشكلات
الاجتماعية والسياسية القائمة.
مثقفو مصر: لا لهدم مسرح البالون والسيرك القومي
ابن الرومي.. شاعر عظيم وحظ عاثر
فيلم "إنشالله استفدت"... معاناة سيزيف الأردني