بحث في معنى جديد للخلافة كقوة ثقافية عظمى

الكتاب: استعادة الخلافة.. تفكيك الاستعمار والنظام العالمي
المؤلف: سلمان سيّد
ترجمة: محمد السيد بشري
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر/2018

 

في كانون ثاني (يناير) الماضي، نشرنا في "عربي21"، قراءة الكاتب والباحث المغربي بلال التليدي، لكتاب "استعادة الخلافة.. تفكيك الاستعمار والنظام العالمي"، وهي قراءة انتهى فيها إلى أن تفكيك الاستعمار وتحرير العالم من المركزية الأوروبية في جميع تجلياتها المتعددة والمعقدة ستخلق أفقا للأمل والمستقبل وتهيئ أرضية لتصور خيارات مستقبلية أخرى للشعوب، تسمح بتشكيل مفردات مفاهيمية جديدة لا تقوم بإعادة تكريس المركزية الأوروبية، وتقطع مع مخرجات الاستشراق، وتنطلق من منهج أنطولوجي لإنتاج المعرفة..

 

واليوم ننشر قراءة الكاتبة والباحثة الأردنية عبير فؤاد، لذات الكتاب، لكن من زاوية تأكيد المؤلف سلمان سيد على أن التعبير عن الخلافة بوصفها قوة عظمى ضروري لاستمرارية تفكيك الاستعمارية، وأنه سيسهم في التعددية المتأصلة للعالم، وقد تكون له القدرة على جعل الهيمنة والاستعمارية الغربية تتآكل. 

 

وكما سيلاحظ القارئ، فإن القراءتين تتكاملان، لجهة التأكيد على أن الإسلام لا يزال يشكل واحدا من أهم الأطروحات الفكرية المؤثرة في النظام العالمي، على الرغم من ضعف المسلمين وهوانهم..

 

ليست مجرد كيان جيوسياسي

يثير الحديث عن استعادة الخلافة الكثير من التساؤلات والكثير من الارتياب، حتى وإن كان مجرد عنوان لكتاب، بعد أن ارتبط لعقود بفهم مبتسر ومبتذل عند العديد من الحركات الموصوفة بـ "الإسلامية" والجهادية، غير أنه يأتي هنا في سياق محاولة فهم الخلافة "كفكرة سياسية وحدودها وإمكاناتها"، وما تعنيه حقيقة للمسلمين. 

سلمان سيد، أستاذ الاجتماع والمختص بفكر تفكيك الاستعمار في جامعة ليدز ببريطانيا، يتحدث عن الخلافة باعتبارها تمثل إمكانية لقيام نظام سياسي الإسلام هو نقطة ارتكازه،" يستطيع أن يكون مستقلا لا تابعا للقوى العظمى"، يكون "المسلمون فاعلون فيه بدلا من أن يكونوا ضحايا.. وتكون لديهم حكومات عادلة ومؤهلة ومسؤولة"، وهو يرى في الخلافة "دافعا قويا للتسامي على الفوارق القومية والإقليمية والإثنية بين المسلمين"، لذلك يشير في حوار حول كتابه هذا إلى أن  الدراسات المعاصرة توضح، على خلاف موقف المستشرقين، أن إلغاء الخلافة في العام 1924 كان حدثا كارثيا بالنسبة للمسلمين،"لما تمثله لهم من رمز للوحدة والحيوية وإمكانية التعافي". 

لكن الخلافة التي يتحدث عنها سيد ليست مجرد كيان جيوسياسي، بل إن أهميتها الدلالية تتسامى فوق السياسة المعتمة.. إنها تشير إلى احتمالية وجود أفق مفكك للاستعمارية، وتشكل مفردات مفاهيمية جديدة لا تقوم بإعادة تكريس المركزية الأوروبية.. إنها الأمل بتحول سياسي وثقافي قادر على مساعدة المسلمين في التحرر من المأزق العالمي الحالي، بحسب ما يقول.

نزع السياسة من الإسلام

يجادل سيد بأن الإسلام في طبيعته سياسي، ويرى أن الحاجة ملحة لاكتشاف كيفية انسجام الغرب مع الإسلام في العالم، ويعتبر كتابه "استعادة الخلافة" إسهام في هذه العملية الاستكشافية، فحتى وقت قريب "كان هناك توقع واثق بأن الإسلام سيضمحل مع التقدم العالمي للتغريب الذي يجلب معه العلمنة والتحديث"، لكن ما حدث كان أن الإسلام لم يتبع المسارات التي اتبعتها المسيحية، "الانحسار في المجال الخاص ونزع الصفة السياسية عنه"، بل إنه قام "بإعادة إثبات تواجده العام في العالم بقوة.. وقامت التعبئات باسم الإسلام بتقديم سلسلة من التحديات لنظام العالم الحالي والتي أخذت صورة تنافسات جيوسياسية، وثقافية، وفلسفية". 

 

إن المركزية الغربية وخطاب التفوق الغربي رسما خطوطا عامة للمفاهيم "المقبولة" ولطريقة تطبيقها، جعلت كل ما عداها خطوات طفولية على درب تطور المجتمعات الإنسانية حضاريا،

وفي تأكيده على الصفة السياسية للإسلام يرى سيد أن دور النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كان دورا اجتماعيا وسياسيا إصلاحيا بقدر ما كان دورا رسوليا دينيا، يقول: "إن إحداث عالم من المثل العليا جديد هو فعل تأسيس، وعلى ذلك فإنه فعل سياسي.. الإتيان بنظام جديد للأشياء يعني العمل في سياق لا بد فيه من زعزعة الممارسات والعادات، والأعراف المترسبة إن لم يتم نبذها. إنه يعني إقامة روتينات مختلفة، وتنظيمات مختلفة، وطرق مختلفة للتفكير والسلوك"، هذه المهمة يتم تحقيقها في بيئة يتنازع فيها السيطرة "أولئك الذين يفضلون التغيير وأولئك الذين يريدون المحافظة على ما هو موجود حاليا" ما يعني تأسيس علاقات عدائية بين الداعمين والمعارضين وهي "الخاصية التعريفية الأساسية للسياسي". ويضيف أن محاولة تجريد الإسلام من السياسي فيه تعني كذلك استبعاد الإسلام من "تجليه في مجموعة من العلاقات الاجتماعية.. إذا لم يتجل الإسلام في العلاقات الاجتماعية فإنه بكل بساطة يختفي، إلا باعتباره أرشيفا.. من ثم فالجدال من أجل إسلام خارج عن السياسي هو جدال لإفراغ قدرته الأخلاقية ولذوبانه النهائي".

خطاب الهيمنة والإقصاء الغربي

يقول سيد: "إن المركزية الغربية وخطاب التفوق الغربي رسما خطوطا عامة للمفاهيم "المقبولة" ولطريقة تطبيقها، جعلت كل ما عداها خطوات طفولية على درب تطور المجتمعات الإنسانية حضاريا، "فالبشر هم بشر بحق فقط في الغرب، وكل ما سوى ذلك هو إما تراكم ثقافي أو انحراف عن ذلك النموذج الطبيعي.. إن فكرة ما يكون الجوهر الأصيل للجنس البشري قد أصبحت مرتبطة الآن بكونها مماثلة لما يعتبر أصيلا ضمن الممارسات الثقافية الغربية". 

لذلك يعيد سلمان سيد قراءة هذه المفاهيم التي جعلها الغرب معيارا وحيدا لتحديد هوية البشر، مفاهيم مثل الليبرالية، والعلمانية، والديمقراطية، ويكشف عن العنصرية والإقصائية المتضمنة فيها، والتي أضحت أشبه ما تكون بـ "الملكية الغربية". ويقول إن الغرب يرى أن " الدمقرطة ممكنة فقط من خلال الغربنة. إنها تعمل في العالم المعاصر باعتبارها علامة مميزة لتشكٌّل ثقافي محدد... ما يجعل من الصعب للغاية تصور نظام ممكن أن يعتبر بشكل عام ديمقراطيا ورافضا للغرب في آن واحد.. بغض النظر عن عدد المرات التي أجريت فيها الانتخابات، أو مدى شفافية إجراءاته الحكومية أو مستوى العدل في هيكله القضائي.. الديمقراطية هي الإسم الذي عن طريقه يتم عرض الممارسات السياسية الغربية، وبصورة مماثلة فإن الاستبداد هو الاسم الذي يتم منحه للسياسة الممارسة من قبل الشرق". وللمفارقة أن هذه الديمقراطية وفي سياق الحرب على الإرهاب اتسع مفهومها ليتوافق "مع التعذيب، والتسليم الاستثنائي، والحرب الوقائية، وما إلى ذلك"!.

النظام الدولي أول المعيقات

ينظر سيد إلى الخلافة بوصفها مجازا لقوة إسلامية ثقافية عظمى يمكنها أن تمنح المسلمين الاعتراف العالمي بكينونتهم وحقهم في ممارسة السياسة. "أي أن الخلافة لا يلزمها القيام بتمثيل الأمة جمعاء، ولا يلزمها خصوصية دولة إسلامية ثقافية وحيدة، لكن يلزمها على أقل تقدير امتلاك قدرة قوة عظمى.. حيث ستقدر قوة إسلامية عظمى على إنهاء تهميش المسلمين باعتبارهم مسلمين في العالم". هنا يتساءل المؤلف عن سبب غياب هذه القوة رافضا الأجوبة التي تفترض أن "الكينونة المسلمة متأصلة في عدم قدرتها على أن تكون مصدرا دائما للترابط السياسي"، ومن هذه الأجوبة أن اقتصادات الدول المسلمة موجهة للتبادل بين الشمال والجنوب بدل أن تكون بينية، وأن "الطبيعة التافهة للنخب الحاكمة تحول دون التعاون فيما بينهم"، فضلا عن الانقسامات الطائفية والإثنية في المجتمعات المسلمة، والطبيعة المصطنعة لأغلب هذه الدول "التي تعكس أولويات الإدارات الاستعمارية الأوروبية.. لذلك فإن الدول المحتواة ضمن هذه الحدود تفتقر إلى أي جذور عضوية عميقة مع الشعوب التي تحكمها". 

 

أي محاولة لاتحاد أكبر بين الدول الإسلامية سيواجه مقاومة شديدة من قوى داخلية وخارجية مرتبطة بالنظام العالمي الحالي

من وجهة نظر سيد فإن هذه أجوبة "جزئية على أحسن تقدير ومضللة على أسوأ تقدير"، فالقوى العظمى التي يعرفها العالم اليوم تشكلت في سياق النزاع الناجح مع الدول الأخرى"، وكثيرا ما تبلورت هذه النزاعات في جولات من الصراع العسكري الكبير والمستدام. وقد كانت التجارب الناجحة في حروب بناء الدول هي الآلية الرئيسية لتشكل الدول والقوى العظمى". 

ويتابع: "أي منافس إسلامي ثقافي محتمل للوصول إلى رتبة القوة العظمى سيضطر للتغلب على سلسلة من الحواجز القانونية والاستراتيجية والسياسية التي تحول دون السبيل العسكري لتحقيق مكانة القوة العظمى، وبما أن هذه قد كانت الوسيلة الأنجح تاريخيا لتأسيس مكانة القوة العظمى فإن استثناءها من مخزون الدول (المسلمة) يعني الحد بشكل كبير من قدرتها على أن تصبح قوى عظمى". 

يؤكد هنا سيد أن أي محاولة لاتحاد أكبر بين الدول الإسلامية سيواجه مقاومة شديدة من قوى داخلية وخارجية مرتبطة بالنظام العالمي الحالي. ويقول: "إن أهم عامل يعرقل احتمالية قوة إسلامية ثقافية عظمى هو النظام الدولي بحد ذاته، والذي لا يجسد فقط كراهية عامة تجاه الحرب المكونة للدولة، بل يجسد كذلك سياقات جيوسياسية وثقافية محددة تقوم بفرض تحديات أكبر.. بالتالي سيستلزم التغلب على هذه العقبات إصلاحات تهدف لزيادة القدرات الاقتصادية والعسكرية، وحركات دبلوماسية لتقوية التحالفات وتوسعتها ، ولإضعاف التحالفات المعارضة وتقليصها".

يؤكد سيد أن التعبير عن الخلافة بوصفها قوة عظمى ضروري لاستمرارية تفكيك الاستعمارية، وأنه سيسهم في التعددية المتأصلة للعالم، وقد تكون له القدرة على جعل الهيمنة والاستعمارية الغربية تتآكل.   

 

إقرأ أيضا: الكينونة الإسلامية كتحد لأطروحة تفوق البيض