ها قد بدأت السنة الدراسية، وفُتحت المدارس. وكما هو الحال في كل عام، عُدنا هذا العام للحديث من جديد عن العام الدراسي.
في الواقع، نحن نناقش التعليم منذ الفترة التي شهدت بدء اتخاذ خطوات الحداثة في الإمبراطورية العثمانية. أي أننا نناقش نفس الموضوع بشكل متكرر منذ 200 عام.
يتحدث الجميع، اليساريون واليمينيون والليبراليون والديمقراطيون والعلمانيون والمحافظون والغربيون والإسلاميون، عن الحرية والتعليم، ولكن عقولنا ولسبب ما لا تستطيع التخلص من العبودية بطريقة أو بأخرى.
وبالتوازي مع هذه النقاشات، ثمة أمر بات معتادًا تقريبًا ويشبه صب البنزين في جميع النقاشات المتعلقة بالتربية والتعليم، يتمثل في تغيّر وزراء التربية كل بضع سنوات، وقيام كل وزير جديد بإحداث وسائل واختبارات جديدة.
الأستاذة خالدة أديب أديوار، التي تعد من أشهر مفكرينا، تقول فيى كتابها "تأثير الشرق والغرب وأمريكا في تركيا"، إن هذا الخطأ السيء هو من تقاليد جمعية الاتحاد والترقي، وتدوّن هذه الملاحظة: "العادة السيئة الأخرى التي بدأت في مجال المعارف (التعليم) مع الاتحاديين، وصلت لسوء الحظ إلى عصرنا، حتى أنها اتخذت طابعًا هائجًا. الأول هو ربط كامل المعارف (التربية الوطنية) بحزب معين. أمّا الثاني، فهو استئصال كل ما تم إنجازه دون التمييز بين الحسن والسيئ، ومحاولة إحداث أشياء جديدة، بمجرد تغير الوكيل في نفس الحزب.
من الضروري قبول إمكانية اتخاذ بعض التدابير الراديكالية في المعارف. ولكن ذلك يمكن أن يكون دائمًا ومفيدًا فقط من خلال تطبيقه بالعمل والتخطيط طويل المدى من قبل لجنة متخصصة غير سياسية، وليس من قبل شخص أو حزب واحد. على الرغم من أنهم زرعوا كل هذه الاضطرابات والبذور التعسفية، إلا أنه يجب ذكر خدمات عهد الاتحاد والترقي للمعارف باحترام".
إذا كان هذا لن يغضب أحدًا، يجب أن نعترف بصراحة تامة: لا يستطيع اليمينيون ولا اليساريّون ولا العلمانيون ولا المتدينون ترتيب قطاع المعارف عندنا لأنه بني منذ اليوم الأول على أسس خاطئة.(جميع الخطوات المتخذة لتصحيح هذا الموضوع بقيت دون معنى مثل أولئك الذين يقومون بتعريف فيل من خلال الإمساك من مكان معين) لأن المعارف عندنا رأت النور في وقت برزت فيه مناقشات الحداثة والتيارات الفكرية المختلفة.
لقد طرح الجميع مفهومًا يفرض رأيه الخاص بدلاً من تأسيس معارف مشتركة. وهكذا نستمر في كل عام دراسي في طرح سؤال "لماذا رقبتك عوجاء يا جمل؟".
من وزارة المعارف إلى التربية الوطنية
عندما نعود قليلًا إلى الماضي ونتحرى عن المكان الذي وضعت فيه أسس الخطأ الأول، تظهر القضية التالية: "وزارة التربية الوطنية الأولى تأسست باسمها الأول وزارة المعارف العمومية في 17 مارس 1857. وفي 2 مايو 1920 حصلت على اسم وكالة المعارف (وزارة التربية) ثم أغلقت عام 1922. وفي عام 1926 تأسست وزارة التربية الوطنية بدلًا من وكالة المعارف. ومنذ أن تأثرت وزارة المعارف بالنظام التدريسي في فرنسا، تم تقديم دروس اللغة الفرنسية في المدارس في تلك المرحلة وإرسال الطلاب إلى فرنسا.
وترجمت مؤلفات كبار الكتاب الفرنسيين إلى اللغة العثمانية: كتب الفلسفة الوضعية والمادية ترجمت ودرّست في المدارس.
في عهد السلطان عبد العزيز، عام 1867، تم تكليف وزير التعليم الفرنسي فيكتور دوروي بإعداد مشروع لتنظيم مؤسسات التعليم العثمانية. تم في هذا الإطار عام 1868، افتتاح مدارس تبشيرية وأخرى تهيمن عليها الثقافة الفرنسية في سيلانيك وأدرنة وإسطنبول وإزمير وطرسوس وقيصري ودمشق وبيروت والقدس والقاهرة. وفي عام 1869 تم إصدار قانون المعارف العمومية (قانون التعليم) على خلفية التأثر من تقرير فيكتور دوروي.
أمّا نتائج الحداثة التي انطلقت مع التنظيمات، فقد ظهرت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. ومن خلال دستور عام 1876 أصبح التعليم الابتدائي إلزاميًا إلى جانب افتتاح مدرسة ابتدائية في كل قرية يبنى فيها مسجد.
السلطان عبد الحميد الذي ينزعج من نظام التعليم الفرنسي، يطلب في البداية تقريرًا من الإنجليز من أجل وزارة المعارف. وفي وقت لاحق يطلب شيئًا مشابهًا من الألمان أيضًا. الغريب في الأمر هو أن من أطاح بالسلطان عبد الحميد هم الشباب الذين نشأوا على نفس الأفكار في المدارس التي افتتحها هو.
حكومة الاتحاد والترقي، التي وصلت إلى السلطة بعد الإطاحة بالسلطان عام 1908، تعاونت أيضًا مع الألمان في مجال المعارف. تم تعيين 19 بروفيسورا غربيا بينهم شخصيات معروفة ومساعدين أتراك درسوا بالجامعات الألمانية، في جامعات حديثة افتتحت في هذه المرحلة.
وفي عهد الجمهورية، تمت الاستعانة بجون ديوي في مجال المعارف، الذي يعد أحد أبرز ممثلي فلسفة التعليم البراغماتية التي تركت بصماتها في القرن العشرين.
جاء ديوي إلى بلادنا في الأعوام الأولى للجمهورية (بين 19 يوليو و10 سبتمبر 1924) بناء على دعوة وزير التربية في تلك المرحلة (واصف تشينار).
قام بعمليات رصد وتدقيق في إسطنبول وأنقرة وبورصة ثم أعد تقريرًا حول المعارف عندنا. وحتى هذا اليوم، بقي نظامنا التدريسي على هذا المنوال.
بينما تمضي وزارة التربية عندنا على شفا هذه التقارير، ناقش مثقفونا بعقلية العصور الوسطى في الغرب، العديد من القضايا مثل المناظرات الفكرية في مجال التعليم، والمركزية أو اللامركزية في التدريس، والشجار بشأن المدارس والحلقات ومدارس الأوقاف والمعارف. إلخ. الصراع المستمر بين الجهل المتظاهر بالغربية والتعصب المتظاهر بالتدين، مستمر مع الأسف في نفس النسق دون تغير منذ 200 عام، وبتعبير أدق يتراجع مستواه ووعيه.
وقد أودى ذلك بمعارفنا إلى هاوية جناحين من التعصب على يد الطرائق والجماعات العلمانية الجاهلة، والطرائق والجماعات التي تتظاهر بالتدين.
التوطين الأول في التربية والتعليم
إذا لم نذكر بشكل خاطئ، فإن أول توطين في التعليم بدأ في عهد المفكر والمعلم والمنظّر والسياسي العربي الشهير سوري الأصل مصطفى ساطع الحصري، المعروف أيضًا باسم مصطفى ساطع بيك. جرى تعيين ساطع بيك، المعلم الشهير خلال فترة المشروطية الثانية، في منصب مدير دار المعلمين العالية عام 1908. جذب الانتباه بجهوده في تجديد برنامج التعليم والموظفين في المدرسة. أصدر مجلات حول التعليم وألقى المحاضرات.
سافر عام 1910 إلى أوروبا لفحص نظام التعليم الغربي، وخرج في رحلات إلى الأناضول ورومَلي عام 1911. وغالبا ما اختلف مع وزير المعارف في هذا المجال. في عام 1914 خرج في رحلة ثانية إلى أوروبا ليركّز خلالها على رياض الأطفال بشكل خاص.
في عام 1915 أسس المدرسة الجديدة. عيّن شقيقته السيدة ناريمان على رأس روضة الأطفال التي قام بتأسيسها. المدرسة افتتحت بمنطقة كوم كابي ثم انتقلت لاحقًا إلى منطقة تشويقية وتغير اسمها إلى مدرسة فوزية عقب مغادرته إسطنبول. في عام 1916 تزوج من السيدة جميلة ابنة حسين حسني باشا.
غادر إسطنبول إلى سوريا في يوليو 1919 عقب انسحاب الدولة العثمانية من المنطقة العربية. تولى منصب وزارة التربية في الدولتين السورية والعراقية الحديثة وتوفي في بغداد عام 1968. ساهم ساطع بيك في تنشئة العديد من الشخصيات الشهيرة في تركيا والعالم العربي. من بين الكتب الموجودة حاليًا في السوق لساطع بيك الذي يصفه المثقفون في فترة المشروطية الثانية بـ"فروبل التركي": "علم التعليم، ومؤتمرات حول التعليم والمشاكل الاجتماعية، وفكر وتربية الوطن، وفن التربية، ودراسات عن مقدمة ابن خلدون، ولوائح حول التعليم".
باختصار، هناك تأثير كبير لهذه الفترات الأربع التي مرت في تاريخنا مع خط كلخانة في 1839، والقانون الأساسي في 1876 و1908، وقانون التشكيلات الأساسية في 1923، على مدارسنا الابتدائية والإعدادية والثانوية وجامعاتنا. ويلخص كتاب "تاريخ المعارف التركي" للمؤرخ الثقافي عثمان نوري أرغين (1883-1961) بشكل جيد المسافة التي قطعها نظام المعارف لدينا منذ عهد السلاجقة ولغاية اليوم.
لا تنحن! قف صامدًا! فكر جديد
ظهر التعليم متطورًا من المثل القائل "الشجرة تنحني وهي طرية". التعليم مستمد من جذر الانحناء. في كتابه "رسائل إلى ابنتي"، يقول شاعرنا الشهير أطاول بهرام أوغلو، "ابنتي، يقولون لك إن الشجرة تنحني وهي طرية، لكنك لست شجرة، مهمتك هي الوقوف صامدة". وفي شعره المعنون بـ"نصائح وإجابات في المدرسة"، يدوّن بهرام أوغلو، هذه الأبيات:
"-الشجرة تنحني وهي طرية
احفظوا هذا المثل
-لكن الإنسان يجدر به الوقوف صامدًا
كنتم تقولون للتو".
الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900)، الذي يقول "التعليم هو تدمير الشخصية باسم المصلحة العامة"، يخاطب في كتابه "أفول الأصنام"، أنه "في هذا البلد، المعلمون هم الذين يحتاجون إلى التعليم".
الإنسانية تتمرد ضد أنظمة التعليم الحديثة في المستوى الذي وصلت إليه اليوم، وتصرخ قائلة"كيف لك أن تحددي سلوكي؟". بأبسط الحدود، ألقوا نظرة على الأسئلة الذكية التي يطرحها أطفال قبل المدرسة، وعلى حالهم بعد المدرسة. حتى هذا يعد المؤشر الأكثر أهمية لكيفية لعب النظام التعليمي بالوعي والسلوك البشري.
شاعرنا العلوي الشهير سعيد كوتشوك، الملقب بـ"مسكيني"، في واحدة من أشعاره التي تحولت إلى أغنية، يختصر بشكل جميل الوضع الذي يضع التعليم الإنسان فيه، بهذه الأبيات:
"لقد علّموا مسكيني
علّموه حرفًا حرفًا
علّموني وكنت لا أعرف لغة
لقد حولوني إلى لغة".
الإنسان المتعلم، أو بالأحرى الذي يتعرض للانحناء، يكون زلقًا ومتلونًا.
كل شخص لا يمكن أن يبقى أصليًا يتحول بطريقة أو بأخرى. وكل شخص يتحول لا يكون شخصًا جديدًا بل على العكس يصبح زلقًا لأنه يفقد أصالته. لذلك فضل العديد من مفكرينا استخدام المعارف بدلًا من التعليم. لأن المعارف مشتق من كلمة عرف (المعرفة، التعرف، الوقوف على الحقيقة).
ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث "من عرف نفسه فقد عرف ربه". وفي كتابيه "من الثقافة إلى المعرفة" و"قضية المعارف في تركيا"، يقول جميل ميريج، إن التربية الوطنية تمر من حب الحقيقة. كلمة "عرف" التي تأتي بمعان مثل المعرفة، الفهم، الإدراك، الوقوف على الحقيقة، استقت منها العديد من الكلمات مثل المعروفة، المعارف، عارف، عارفة، عرفان.. إلخ.
خلاصة القول، إن مقولة "ابني يقرأ البناء، يعود ويقرأ من جديد" لا تعني فقط الحلقات وإنما مدارسنا أيضًا. المفكرون أيضًا عندنا يكررون قراءة نفس الشيء مع كل عام دراسي. وطريق الخلاص من هذا يمر من وعي جماعي. الوعي يعني الشعور في اللغة العربية. والشَعر الذي يعني في العربية الشعور والشِعر مشتق من نفس الكلمة. ولهذا السبب، يطلق الشِعر على القول الذي هو أرق من الشَعر، والشعور على التعمق لدرجة فهم الفرق ما بين الشعرتين وصلابة العين.
يقول المتصوف الكبير الشيخ عبد القادر الجيلاني: "العارف هو رؤية الشعر الأبيض داخل الحليب الأبيض في الظلام الدامس".
أمّا شاعرنا الكبير نجيب فاضل قيصا كورك، فيتحدث في "خطاب إلى الشباب" عن هذه العبارة كالتالي: "بتشبيه رجل صوفي كبير، شباب ثاقب النظر قادر على كشف الشعر الأبيض داخل الحليب الأبيض في الظلام الدامس..".
الوعي ليس شيئًا يتم تدريسه. مرحا للأجيال التي تتمتع بالوعي والإدراك!