مقالات مختارة

استحالتان في العراق ولبنان: إصلاح الدولة وتهدئة الشارع

1300x600

كان لافتا في العراق -كما في لبنان- أن المحتجّين يدعون إلى انتخابات جديدة مبكّرة، هذا يعكس شعور المواطنين بأن البرلمانَين لا يعبّران عنهم، وأن أصواتهم صودرت وحُرفت عن هدفها، وبالتالي فإن أي خطاب يدّعي بأن "الشعب مصدر السلطات" لم يعُد ذا قيمة، فالشعب الحقيقي هو الذي يتظاهر الآن ضد السلطة، وإذا كان يطالب برحيل الحكومة، فلأنها تستند إلى "ثقة" البرلمان، إلا أن هذه "الثقة" أصيبت بسقوط مريع في الشارع، ثمة فارق ضئيل بين الحكومة العراقية التي يُنصَّب رئيسها ووزراؤها بتصويت فردي مباشر من مجلس النواب، وبين الحكومة اللبنانية التي تُطبخ بين المكوّنات السياسية ثم تطرح برنامجها في البرلمان لتنال موافقته عليه وعلى تركيبتها، أما المشترك بين الحكومتَين فهو "المحاصصة" الطائفية، التي باتت ممجوجة وحوّلت جميع أطراف السلطة إلى منظومة فساد متضامنة يغطي كلٌّ فيها على الآخر.

لكن الناس تتظاهر في لبنان والعراق ضد السلطة العليا الخفية المتحكّمة بالسلطة الظاهرة، وتدرّجت في تسميتها من التلميح إلى التصريح، والمقصود هنا الوجود الملموس للنفوذ الإيراني من خلال "حزب الله" هنا، و"الحشد الشعبي" هناك، رغم أن أعضاءهما محلّيون، هذه حال غير مسبوقة تجاوزت التحزّب والتعاطف إلى ولاء علني لا ينكره هذا الطرف أو ذاك، بل يعتبر إيران "خطا أحمر" لا يجوز تخطّيه، ما عقّد المشكلة أن ذلك النفوذ اتخذ طابعا عسكريا، بالأحرى مليشياويا، وفرض هيمنة على الأحزاب السياسية التي استقوت به وبسلاحها لحماية مصالحها، لذلك لم يُترجم النفوذ بأداء حكومي رشيد وازدهار اقتصادي ووئام اجتماعي، وسواء كان صحيحا أم لا أن يُحمَّل النفوذ الإيراني كل أوزار أزمة داخلية، فإن المجتمع بمكوّناته كافة، في لبنان والعراق، يعتبره أحد الأسباب الرئيسية لسوء الإدارة ونهب المال العام، ومن الواضح أن ظروف الأزمة الراهنة مع الولايات المتحدة وعقوباتها تحول دون أن تكون إيران عنوانا للتهدئة والاستقرار.

ما الخيارات في هذه الحال؟ إنها ما تحاوله الحكومة هنا وهناك، إصلاحات عاجلة من خارج برامجها، وعود بمحاربة الفساد، تشريعات طارئة للتوظيف ومساعدة الفئات المحتاجة، وتعديلات وزارية للتخلص من رموز انكشف فشلها وفسادها... لكن أي مبادرات تأتي متأخرة وبلا فاعلية ومصداقية، لأنها تعني أن المنظومة الفاسدة نفسها، الفاقدة ثقة المجتمع والمسؤولة عن التأزّم، هي التي ستتولّى تصويب الأوضاع ولو كانت مؤهلة أصلا لحالت دون هذا التردّي، لذلك يرفض الشارع هذه المقاربة الخادعة ويقول لأطراف السلطة إن توافقاتها لم تعد مجدية، لكن التنازلات والتضحيات المطلوبة لا تستطيعها تلك الأطراف، فهي تعادل تغيير نظامها أو إسقاطه.

وهكذا، فبين استحالة تلبية مطالب الشارع واستحالة تصحيح مسار الدولة، تقف مقاربات المجتمع والسلطة لسبل الخروج من الأزمة أمام طرق متعارضة ومسدودة. لا الحراك الشعبي قادر وحده على التغيير، ولا أطراف السلطة راغبة في التغيير، لا العنف المفرط في العراق يكفي لإخماد الغضب المعتمل، ولا الخشية من الفراغ السياسي أو الحرب الأهلية في لبنان يُفرغان الشوارع والساحات من المحتجّين، في مثل هذه المآزق لا تجد السلطة مفرا من وضع شارع في مواجهة شارع، ولا تعوزها الدوافع، فالانقسامات الطائفية والسياسية مستشرية، ولا تتطلّب جهدا كبيرا لتفعيلها، ولعل ما يحسم كل الاعتبارات أن أي هزيمة واضحة للسلطة في العراق أو لبنان باتت تعني هزيمة يرفضها أنصار النفوذ الإيراني، بل يعتبرونها "مؤامرة أميركية" ينبغي إحباطها بأي ثمن حتى لوكان دمويا.

(العرب القطرية)