لم
تأخذ المسألة الاجتماعية والمعيشية حظها من الاهتمام لدى معظم الحركات الإسلامية،
في بدايات التأسيس والعقود الأولى من بروز هذه الحركات في القرن الماضي. فمعظم هذه
الحركات أعطى الأولوية للقضايا الكبرى التي واجهتها أو تواجهها الأمة الإسلامية،
كقضية استعادة الخلافة الإسلامية وإقامة الحكم الإسلامي، أو مواجهة الاستعمار
والاحتلال الغربي أو الصهيوني وتشكيل أطر للمقاومة المسلحة، أو العمل لمواجهة
الحكام الظالمين والمستبدين والوصول للسلطة، أو الدفاع عن الهوية الإسلامية في
مواجهة الأفكار والعقائد الأخرى، كالشيوعية والقومية والرأسمالية والنزعات
التقسيمية.
وأما
على الصعيد الاجتماعي وهموم الناس، فقد ركزت معظم الحركات الإسلامية على اختلاف
تياراتها (باستثناء حزب التحرير لأسباب خاصة وفكرية) على إقامة الجمعيات الخيرية
والمؤسسات التي تقدم الخدمات الاجتماعية والتربوية والصحية، إضافة للاستفادة من
موارد الزكاة والخمس لتأمين بعض الحاجيات، والسعي لاستيعاب العاطلين عن العمل
والشباب والنساء في المؤسسات الخاصة التي تقيمها بعض هذه الحركات أو بدعم منها،
كالمدارس والمستشفيات والمراكز الصحية والمؤسسات التجارية.
لكن
لماذا لم تهتم الحركات الإسلامية (بشكل عام مع بعض الاستثناءات) بالمسألة
الاجتماعية والاقتصادية، ولم تعطها الاهتمام الكافي في برامجها ورؤاها
السياسية والفكرية؟
هناك
عدة وجهات نظر لدى بعض هذه الحركات في المراحل الماضية، ومنها على سبيل المثال لا
الحصر:
أولا:
أن المعركة الاساسية كان يجب أن تتركز على اقامة الدولة الإسلامية أو الخلافة الإسلامية،
وأنه إذا أقيم الحكم الإسلامي الكامل تعالج مشاكل الناس، ويمكن الاستفادة آنذاك من
تجارب الرسول والخلفاء الراشدين في إقامة الحكم الصالح.
ثانيا:
أن مواجهة الاستعمار الغربي أو الشرقي أو الاحتلال والعدو الصهيوني؛ له الأولوية
على كل شيء، طبقا لشعار: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، أو أنه لا مجال للاهتمام
بشؤون الناس قبل تحررهم من الاحتلال والاستعمار.
ثالثا:
أن معركة الهوية الإسلامية والدفاع عن العقيدة والفكر الإسلامي في مواجهة الأفكار
الأخرى يتقدم على أية معركة أخرى؛ لانه ماذا ينفع الإنسان إذا خسر دينه وهويته؟
رابعا:
أن محاربة الاستبداد والظلم في أية دولة يتقدم على الاهتمام بالجانب المعيشي والحياتي،
وإذا تم إسقاط الحاكم الظالم أو المستبد يمكن الاهتمام لاحقا بقضايا الناس
وهمومها.
هذه
الأفكار والرؤى لو افترضنا أنها كانت صالحة في المراحل الماضية، ولا سيما في القرن
العشرين، لكن اليوم وبعد وصول عدد من الحركات الإسلامية إلى الحكم سواء بشكل مباشر
أو غير مباشر، وسواء كانت لوحدها في إدارة الحكم أو شريكة مع قوى أخرى، وفي ظل ما
تواجهه الشعوب العربية والإسلامية من تحديات اجتماعية ومعيشية واقتصادية وبيئية،
لم يعد بالإمكان تخلي هذه الحركات عن الاهتمام بقضايا الناس وهمومها.
لكن
الجانب الأسوأ في الصورة اليوم، أنه رغم وصول بعض الحركات الإسلامية أو الشخصيات
الإسلامية إلى الحكم أو تبوؤ مواقع متقدمة في العمل السياسي، فإنها بدل أن تقدم
النموذج الأفضل في إدارة الدولة وخدمة الناس ومعالجة مشاكلهم، فإنها غرقت في
الفساد أو فشلت في تقديم الحلول المناسبة للقضايا الحياتية التي تهم الناس، بل إنها
في بعض الأحيان كانت عقبة أساسية في مواجهة الفساد والفاسدين لأسباب عديدة تقدمها،
وتحاول من خلال ذلك تبرير أدائها.
ولعل
ما نشهده اليوم في لبنان والعراق، وما شهدناه سابقا في السودان، وما نلاحظه في أداء
حركات إسلامية في بعض الدول العربية، كل ذلك يشير إلى حجم الخلل الكبير في تعاطي
الحركات الإسلامية مع هموم الناس ومشاكلها، وهذا لا يعني عدم وجود تجارب أخرى
ناجحة كما شهدناه في ماليزيا والتجربة التركية، وجانبا من التجربة الإيرانية التي
تواجه تحديات مختلفة.
وفي
الخلاصة، إنه لم يعد بالإمكان تأجيل الاهتمام بالمسألة الاجتماعية والاقتصادية أو البيئية
أو الخدماتية من قبل الحركات الإسلامية، ولا يمكن تحميل أسباب عدم الاهتمام بهموم
الناس على الانشغال بالمعارك الكبرى، كمعركة الخلافة أو الهوية أو التحرر أو الاستبداد؛
لأنه لا يمكن لأي شعب أن يتحرر إذا لم يكن يمتلك القدرات الاقتصادية والعيش الكريم.
والأخطر من كل ذلك أن يكون وجود حركة إسلامية أو قيادة إسلامية في الحكم سببا
لانتشار الفساد أو حمايته؛ لأن ذلك ستكون له آثار سلبية كبيرة ليس على هذه الحركات
فقط، بل على كل الفكر الديني أو الإسلامي، والذي كان يقدم وكأنه طريق الخلاص للناس
والبشرية.
وعلى
ضوء ذلك يحتاج الإسلاميون جميعا لإعادة النظر بكل الأولويات وإعادة الاعتبار للمسألة
الاجتماعية والاقتصادية، والمشكلة لن تقتصر على الجانب الفكري أو النظري، بل المهم
أن يقدّم الإسلاميون التجربة الأفضل في هذا المجال؛ لأن فشلهم هو فشل للفكرة الإسلامية
كلها، وليس فقط لهذه الأحزاب والحركات.