في 11 أيلول/ سبتمبر عام 1973 وصل نظام عسكري على ظهر الدبابات وبمساعدة المخابرات الأمريكية إلى الحكم، واتخذ من الحديد والنار وسيلة لقمع معارضيه أو أي احتجاج شعبي أو فئوي على حكمه، ومن ثم نشر الخوف بين صفوف الشعب حتى يضمن بقاءه في السلطة أطول فترة ممكنة.. إنه نظام الجنرال بينوشيه الذي انقلب على الرئيس المنتخب سليفادور أليندي بعد ثلاثة أعوام فقط من وصوله للسلطة... هنا تشيلي.
في سيناريو أشبه بالمنفيستو، نصب أوغستو بينوشيه نفسه زعيما لتشيلي وأنشأ دكتاتورية عسكرية بمشاركة كبيرة من جيشه، بعد أن وزع المناصب ومقدرات البلاد الاقتصادية على شركاء الانقلاب من الجنرالات، واغتال العديد من كبار المسؤولين في الحكومة المنتخبة، وأغلق الصحف، وعسكر الجامعات والمدارس، وأُعدم أو أُخفى أكثر من ثلاثة آلاف و200 شخص، واحتجز وعذب وأخفى عشرات الآلاف غيرهم. ومن رحم تلك المعاناة كانت المقاومة الخلاّقة، رغم تفنن نظام بينوشيه في استخدام أساليب تفتيت المعارضة لتسهيل ترويضها، بل ومن ثم قمعها. وعلى الرغم من منعه التظاهر لنحو 10 سنوات، بدأت الجماهير تحتج وعادت المعارضة للتعاون بعد ظهور الأزمات الاقتصادية، وتغلبت المعارضة على خلافاتها لما رأته من تدهور في مناحي الحياة العامة وعلى رأسها النواحي الاقتصادية، ومن هنا بدأت النقابات العمالية تأخذ دورها الريادي في قيادة الحراك العمالي لما مثلته سياسات بينوشيه الاقتصادية من ضرر جسيم عليها، فكانت نقابة عمال النحاس في طليعة الحراك وبثت الطمأنينة في قلوب الناس، ما دفعهم لمزيد من الاحتجاجات وكسر حاجز الخوف.
ومن ناحية أخرى، بدأ نظام بينوشه في التنفيس عن المعارضة، فسمحت الحكومة بمساحات من حرية التعبير وعاد بعض السياسيين المنفيين إلى البلاد، وبدأت المعارضة في الاجتماعات وبدأ الحراك السياسي في الشارع وحشدت المعارضة الجماهير في الشارع. وعلى إثر مقتل ثلاثة من أعضاء الحزب الشيوعي في عام 1985 على أيدي قوات الأمن، عقد رئيس أساقفة سانتياجو اجتماعا بين المعارضة والأحزاب السياسية الموالية للنظام، أسفر عن توقيع الأطراف على وثيقة للوفاق الوطني للانتقال إلى الديمقراطية الكاملة، لكن نظام بينوشيه بالنتيجة رفض الاتفاق، وبدأت مرحلة جديدة من النضال أجبرت بينوشيه على إثره على إعلان إجراء استفتاء وطني على بقائه في السلطة، وانتهزت المعارضة هذه الفرصة ونظمت حملة موحدة لهزيمة بينوشيه؛ وشكلت ما سمي في حينه "ائتلاف الأحزاب من أجل لا". وفازت حملة لا، لكن لم يعترف بونشية بالهزيمة وأعلن الأحكام العرفية، إلا أن المجلس العسكري رفض الانقلاب على نتائج الاستفتاء.
وفي عام 1990، سلم بينوشيه السلطة لرئيس منتخب بعد تأمين بقائه قائدا للجيش وبعضوية في مجلس الشيوخ مدى الحياة. لكن في عام 1998، احتجز في بريطانيا لمدة 18 شهرا على خلفية تعذيبه مواطنين إسبان في تشيلي وعاد إلى بلاده ليحاكم على تهم الخطف والقتل التي ارتكبها، قبل أن يتوفى عام 2006 في إقامته الجبرية.
مع انسداد الأفق وفشل المحاولات، يفرض الإبداع نفسه وإلا تموت الكيانات، وعندما يتعلق الأمر بوطن كبير وشعب يعد الأكبر في قارته، فإن الحلول التقليدية تبدو منعدمة الحظوظ، ومن ثم فإن على المخلصين أن يسعوا لإيجاد متنفس ولو في سم الخياط لإنقاذ بلدهم من شر مستطير ومستقبل مظلم يراد له أن يدخله.
إن المبادرة التي طرحها النائب أحمد الطنطاوي حالة ثورية بما تحمل الكلمة من معنى، فالثورة بمعناها هي التغيير، والمتفحص في مبادرة أحمد الطنطاوي التي احتوت على 12 محورا تضمنت رحيل السيسي بعد إلغاء التعديلات الدستورية التي أجراها في نيسان/ أبريل من العام الجاري، وما صاحبها من رشى لفئات معينة لضمان بقائه. والمحور الثاني الاقتصادي وإصلاحاته، ثم هيكلة الموازنة كتابع مهم للمحور السابق، ومن ثم محاربة الفساد بعد أن فاحت رائحته وبات يزكم الأنوف، ثم الوقوف عند حالة حقوق الإنسان المتردية في محور خامس من محاور ثورته السياسية، ثم مراجعة التشريعات التي صدرت عن برلمان بدرجة سكرتير لرأس النظام، وبالتبعية مراجعة الاتفاقيات التي أبرمت في الفترة السابقة والتي نتج عنها تنازل النظام عن مواقع إستراتيجية من أرض الوطن، وأخيرا مواجهة الإرهاب بشكل جدي وعدم الاستفادة من وجوده لمصلحة بقاء شخص ما. وطالب الطنطاوي بتشكيل لجان للعمل على هذه المحاور، وهذه اللجان بنظري لو شُكلت ستكون بمثابة خلايا ثورية تقلب موازين العمل السياسي وتقوض الانقلاب.
مبادرة أحمد الطنطاوي شطر من التجربة التشيلية، وتحتاج إلى شطرها الآخر حتى تجد لها طريقا أمام النظام القمعي الذي لن يستجيب لمطالب الطنطاوي ولا غيره لإصلاح البلاد؛ أبدا ما دام مستفيدا بشكل مباشر من الوضع الراهن، وطالما يُدعم من قبل دول إقليمية لا تريد لمصر أن تعود لريادتها في المنطقة، لا لمصلحة هذه الدولة الخاصة كما يتوهم البعض (لأنها أصغر وأضعف وأنذل من أن تقود الأمة العربية والإسلامية)، وإنما لمصلحة الكيان الصهيوني، الذي يراد له أن يكون قائد ما يسمى بالشرق الأوسط. كما أن الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا، الداعمة لهذا النظام من أجل نفس الهدف السابق، لن تتخلى عنه ما دامت لا تجد إرادة حقيقية تترجم إلى نضال حقيقي على الأرض في مصر يحرج الدول الغربية أمام شعوبها.
على الجميع الآن (وأعني هنا المخلصين من أبناء هذا الوطن والمتجردين عن مصالح شخصية أو منافع آنية) أن يتحركوا في كل الاتجاهات من أجل تحرير هذا الوطن، مستفيدين من الزخم الذي أحدثه المقاول والفنان محمد على، ومن المبادرة التي أطلقها الطنطاوي وسبعات الجوكر لتخليص مصر من براثن النظام الحالي والدكتاتوريات العربية الداعمة له.
تجديد فكر الإخوان المسلمين: القوة والثورة (6)
المعارضة المصرية والأمن القومي