لم يعرف
العراق استقرارا منذ
الغزو الأمريكي عام 2003 وسقوط الطاغية "صدام حسين"، ودخول الخونة على
ظهر الدبابة الأمريكية، وتقسيمه طائفيا وجغرافيا على يد الحاكم العسكري الأمريكي
"بريمر.
منذ ذلك الوقت ضاع العراق وسقطت البوابة
الشرقية للوطن العربي، صمام الأمان له، فدخلته
إيران بضوء أخضر أمريكي لتجعله
تابعا لها أو إحدى محافظاتها، تعين الموالين لها وتزكي بل تختار رئيس الوزراء
التابع لها، ليكون كعرائس "الماريونت" تمسك بخيوطها لتحركه في الاتجاه
الذي تريده. ومن خلال هؤلاء استولت إيران على ثروات العراق، وامتلأت الأسواق
العراقية بالبضاعة الإيرانية، ومُحيت الأسماء العربية لبعض الشوارع ليعاد تسميتها
بالفارسية. فقد ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" قبل عامين، في تحقيق مطول،
أن كل شيء في العراق أصبح إيرانيا، بدءا من حليب الأطفال ومرورا بالساحات، وصولا
إلى الرجال والسياسيين القابعين في دولاب الدولة العراقية، أو في أحزابها
الطائفية
وتياراتها السياسية.
وعقدت إيران الاتفاقيات مع أمريكا، سرا وعلنا،
على أنقاض هذا البلد الجريح، وأصبحت الحاكم الفعلي له، واستولى الساسة الجدد
(أراجوزات السلطة) على خيرات وأموال بلادهم لتمتلئ بها خزائن الغرب، وتحصنوا داخل
المنطقة الخضراء بعيدا عن الشعب الذي يعاني الفقر والجوع والبطالة!
انسلخ العراق عن محيطه العربي، كرها وطواعية،
بعد أن غابت عنه الجامعة العربية، وتخلت عنه الدول العربية وأدارت له ظهرها وتركته
فريسة سهلة في أيدي إيران، تنهش في لحمه قطعة قطعة ولا من مغيث، وهم لا يدركون أن
ضياع العراق ضياع لهم جميعا. وها هم الآن يصرخون من التوغل الإيراني في المنطقة،
واستيلائها على خمس عواصم عربية، وأعلى الصرخات تصدر من السعودية، أكثر المتضررين
من إيران، وهي التي فتحت أجواءها للطيران الأمريكي ليضرب بلدا عربيا شقيقا،
واستبيحت أرضها لتمر من فوقها الدبابات والمركبات العسكرية والجنود الأمريكان لغزو
العراق تحت مزاعم امتلاكها السلاح النووي، وهو ما كذبه الرئيس الأمريكي
"ترامب" مؤخرا، ولكنها كانت المؤامرة الكبرى على العراق وشعبه وحضارته،
والتي اشترك فيها الجميع، القريب من بني جلدته والغريب للثأر منه.
انتظر الشعب العراقي الحرية المنشودة التي
طالما ما حلم بها، والديمقراطية التي وعده بها الرئيس الأمريكي آنذاك "جورج
دبليو بوش"، بعد عقود من الديكتاتورية والقهر والظلم والاستعباد، فلم يجد إلا
مزيدا من الديكتاتورية والقهر والظلم على يد الطائفة الشيعية الموالية لإيران،
والتي تتحكم في زمام الأمور في البلاد بمليشياتها العسكرية، والتي فُصل الدستور
العراقي على مقاسها، وبُنيت وشُيدت قواعد للطائفية البغيضة في أبشع صورها، والتي
لم تكن تعرفها البلاد من قبل..
أحس المواطنون العراقيون بأن البلد لم يعد
بلدهم، وأن العراق قد سُرق من بين أيديهم، وسُحبت الأرض من تحت أقدامهم، فثاروا
ليستردوا أرضهم، ويحرروها ويخلصوها من أمراء الطوائف الذين عاثوا في الأرض فسادا.
لم تكن انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019 هي
أول انتفاضة للشعب العراقي لإسقاط النظام الطائفي وضد التدخل الإيراني والفساد في
البلاد، بل بدأت منذ عام 2013، وكانت تعلو حينا وتخفت حينا آخر. كانت هناك تحركات
شعبية كبيرة في المناطق ذات الأغلبية السنية من العراق، مثل الرمادي وصلاح الدين
والموصل وكركوك وديالي وغيرها، ولذلك اتسمت الانتفاضات بالسنية ضد الطبقة الشيعية
الحاكمة، وكانت دائما وأبدا تواجه من الجيش والشرطة ومليشيات الحشد الشعبي الشيعية
بالرصاص، فيتساقط القتلى والجرحى، مما يجهضها بعد فترة..
ولكن تتميز انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019
أنها لم تُصبغ بأي لون طائفي أو حزبي، واختلطت الألوان ببعضها البعض، ليرتفع فقط
العلم العراقي. كما أنها الأكثر حجما وثقلا وجغرافية، إذ شملت كل محافظات ومدن
العراق، متخطية كل الأحزاب وعابرة لكل الطوائف، بل داست الطائفية بأقدامها، وعاد
السلم الأهلي إلى المجتمع بعد أن اتحدت الحناجر واختلطت الدماء في ميادين الثورة..
من أجمل الشعارات التي كتبوها على لوحاتهم
وهزتني أنا شخصيا ذلك الشعار عن موت الطائفية "انتقلت إلى رحمة الله وتعالى،
الطائفية عن عمر 16 سنة من 9/ 4/ 2003 لغاية 1/ 10/ 2019 وسيقام مجلس العزاء في ساحة
التحرير، إنا لله وإنا إليه راجعون"..
إنه ليس مجلس عزاء يذرفون فيه الدموع ويشقون
فيه الصدور ويلطمون فيه وجوههم، بل هو مجلس فرح يتلقون فيه التهاني والتبركات،
فالميت لم يكن أبدا عراقيا، فبموت الطائفية ينتهي الظلم ويتلاشى التهميش والإقصاء
ويعود العراقيون إخوة متحابين، أبناء وطن واحد لا تمييز بينهم ولا تفضيل لطائفة عن
الأخرى.
الشعار يعكس مدى النضوج الفكري لدى الشباب
الذين يملأون الميادين الآن، وكلهم كانوا أطفالا أثناء الغزو الأمريكي لبلادهم،
ومنهم مَن لم يكن قد ولد بعد، فنشأوا في أجواء طائفية بغيضة، استنشقوا رائحتها
الكريهة، وذاقوا مرارة طعمها فلفظوها وقرروا طرد من أدخلها لبلادهم.
هذه هي توجهات المنتفضين في ساحة التحرير
وغيرها من الساحات الأخرى، لذلك علت أصوات المتظاهرين ضد إيران "إيران برة
برة بغداد تبقى حرة"ـ وأحرقوا صور الخميني وخامنئي، مما أثار غضب الإيرانيين،
فاتهم المرشد الأعلى للثورة الإيرانية "على خامنئي" أمريكا والكيان
الصهيوني وبعض الدول العربية الرجعية بأنهم وراء هذا الشغب، وأنها مؤامرة على
العراق، موجها نصيحة للثوار بضرورة المحافظة على الاستقرار وتحقيق مطالبهم بالطرق
القانونية. وما يدعو للسخرية حقا تصريحه بأن المظاهرات في لبنان والعراق هدفها عرقلة
تحرير القدس!!
إنه من عجب العجاب أن يدعو زعيم أكبر ثورة
حدثت في القرن العشرين، زلزلت العالم كله وغيرت من خرائطه، للتعبير عن مطالبهم عبر
الأطر القانونية، ما يستدعي أن نسأله، ولماذا لم تلجأوا أنتم إلى القانون وتتبعون
هذه المسارات القانونية لتحقيق مطالبكم بدلا من ثورتم على الشاه، وقلب نظام
الحكم؟! كما لابد أن نسأله إذا كانت انتفاضة الشعبين اللبناني والعراقي هدفها
عرقلة تحرير القدس، فلماذا لم تحرروها طيلة السنوات الأربعين الماضية، عمر ثورتكم
المجيدة حقا (اللي اختشوا ماتوا)..
لذلك ردد وكيله في العراق "عادل عبد
المهدي"، رئيس الوزراء، ما ردده الوكيل الآخر في لبنان "حسن نصر
الله": "إن التغيير في العراق للحكومة والبرلمان والدستور ممكن ولكن
بالطرق الدستورية، وليس عن طريق التظاهرات التي تحدث الفوضى في البلاد".
ألا يدرك خامنئي ووكيله في العراق ولبنان أن
السبب الرئيسي للفوضى هو الطائفية العنصرية، وتوأمها
الفساد والثراء غير المشروع
لأمراء الطوائف؟! إنهم يدركون ويعلمون أن هذه الجموع الغفيرة التي تضافرت معا رغم
الدسيسة والوقيعة فيما بينهم، وإذكاء النزاعات الطائفية وإشعال نار الفتنة بينهم،
لم تفلح ولم تؤت ثمارها، وخرج الجميع من عباءة الطائفية الضيقة لعباءة الوطن
الواسع الذي يضم الجميع يطالب بحقه في وطنه، مما يعني نهاية حكم وكلاء إيران
وسحقهم، وهذا ما يخيفهم من هذه الانتفاضات الشعبية في العراق ولبنان، وغدا إن شاء
الله ستصبح في سوريا..
إن الشعب العراقي يخوض ملحمة بطولية عظيمة من
أجل الحرية سيسجلها التاريخ بحروف من نور، فهو يسطر بدمائه الزكية لوحة الحرية في
أنصع وأبهى صورها، والنصر آت لا محالة، هكذا علمنا التاريخ، فدائما النصر
لانتفاضات الشعوب على أعدائها المحليين والإقليميين والدوليين..