الكتاب: القرآن والشريعة: نحو دستورية إسلامية جديدة
المؤلف: وائل حلاق
ترجمة: أحمد محمود إبراهيم ومحمد المراكبي
تقديم ومراجعة: هبة رؤوف عزت
الناشر الشبكة العربية للأبحاث والنشر بيروت لبنان
الطبعة الأولى 2019
عدد الصفحات: 192
يتميز وائل خلاق بقدرة كبيرة على قراءة إيبستيمولوجيا العلوم الإسلامية، وبشكل خاص، ما يرتبط بعلم الأصول والفقه، كما يتميز في الجهة المقابلة بامتلاك خلفية معرفية غربية ثقيلة، ولذلك غالبا ما تمزج دراساته بين المعطيين، وتفكك أطروحات المستشرقين وتكشف تحيزاتهم، كما يتميز بعقلية نقدية بقدر عال من الاستقلالية تجاه إنتاجات الفكر الإسلامي المعاصر.
والرجل، فضلا عن هذا وذاك، يمتلك مشروعا معرفيا نقديا، تبلور من خلال العديد من الكتابات التي تناولت مفهوم الشريعة ونظريتها، ودراسة تطور الفقه ونظرياته، والنظم المعرفية التي حكمت مدارس علم الأصول والفقه، بالإضافة إلى مساهمات نوعية في دراسة الجانب القانوني والأخلاقي في الشريعة الإسلامية.
غير أن كتاباته التي تصدر باللغة الإنجليزية، تتأخر في التداول العربي، بسبب تأخر الترجمة، مما يجعل استيعاب نظراته وأفكاره تلحق فترة الإنتاج، وما يرافقها من سياقات خاصة، إلا ما كان من محاولات يقوم بها دارسون يحتكون بأفكاره وكتبه الصادرة باللغة الإنجليزية، فيساهمون بقدر ما في جعل نظراته محينة ضمن سياقها التاريخي.
يقترح وائل حلاق منهجا مخالفا لفهم زمن وكيفية تشكل الدور التشريعي للقرآن الكريم، ينطلق من التخلي عن التحيزات الحداثية،
وهذا شأن الكتاب الجديد الذي صدر مؤخرا باللغة العربية "القرآن والشريعة: نحو دستورية إسلامية جديدة"، إذ هو في الأصل عبارة عن أربع دراسات مهمة، صدرت الأولى (أسس القانون الأخلاقي نظرة جديدة في الأخلاق وتشكل الشريعة) سنة 2009، وصدرت الثانية سنة 2012، وصدرت الثالثة (أولوية القرآن في النظرية الأصولية عند الشاطبي) مقدمة إلى شارل آدم، بمشاركة دونالد تريب، سنة 1991، وصدرت الرابعة (هل يمكن إحياء الشريعة) سنة 2004.
لكن، مع هذه الفجوة السياقية الطويلة بين سنة الإصدار وسنة الترجمة، وما تعنيه من تغير السياقات التي تفرض النقاش في بعض القضايا، فإن نقل أفكار وائل حلاق إلى التداول العربي بهذه الكثافة له فائدة كبيرة، لأن القضايا التي جعلها محور اشتغاله ما تزال تمتلك راهنيتها. فما يزال النقاش ممتدا حول منهجية التعامل مع المصادر الشرعية، وما يزال النقاش حيويا حول موقع الشريعة في البناء القانوني والدستوري للدولة في السياق العربي الإسلامي.
الشريعة الإسلامية بين المنزع الأخلاقي والطليعة القانونية
في فصله الأول والثاني، يجمع وائل حلاق بين الطابع السجالي النقدي والطابع التأسيسي في تناول الدور التشريعي للقرآن الكريم؛ فقد اختار أن يجادل عددا من المستشرقين الغربيين الذين اشتغلوا بسؤال الزمن الذي بدأ فيه القرآن يؤطر الحياة القانونية للمسلمين (الدور التشريعي)، فاستعرض أهم الآراء التي حملتها الدراسات الحديثة حول البدايات الأولى للدور التشريعي للقرآن الكريم، فاستعرض كتابات جوزيف شاخت، التي ذهب إلى أن دور القرآن الكريم كمصدر للتشريع يرجع لمرحلة تاريخية متأخرة نسبيا (مطلع القرن الثاني الهجري أو في فترة لاحقة عن ذلك) مستعرضا أهم حججه في تثبيت أطروحته، ثم كتابات هارالد موتسكي الذي دحض أطروحة شاخت، معترضا على التاريخ الذي حدده لتشكل الدور التشريعي للقرآن الكريم، ومقترحا سبعين سنة قبل التاريخ الذي حدده شاخت، كما استعرض أطروحة نويل ولسن الذي اهتم بإيجاد سردية عامة للتشكل المبكر للشريعة، فاقترح البدايات الأولى للمجتمع المسلم التي أعقبت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يستعرض أيضا أطروجة شومولو غويتن الذي انطلق من خلفية محاولة التمييز بين البعد الأخلاقي والقانوني في الآيات القرآنية، مقترحا السنة الخامسة بعد الهجرة كزمن تشكل الدور التشريعي للقرآن الكريم.
ومع اجتهاد وائل حلاق في مناقشة كل أطروحة على حدة، وتتبع حججها بالنقد والإبطال، بالاستعانة بنقد الأطروحات اللاحقة للأطروحات التي سبقتها، إلا أن نقده الإيبيستيمي، شملها جميعا، من خلال طرح الأسس التحيزية في منهجية هذه الدراسات، إذ يعتبر وائل حلاق، أن سبب الاختلاف والتباين الذي يميز نتائجها، لا يرجع إلى اختلاف الأدلة والإثباتات التي يجتهد كل باحث في تقديمها، ولكنه يرجع بالأساس إلى الخلفية المعرفية والمفاهيمية التي تحملها هذه الدراسات عندما تحاول التعاطي مع الدور التشريعي للقرآن الكريم، لاسيما ما يرتبط بمفهوم الأخلاق ومفهوم القانون، والثنائية التصنيفية التي توارثتها عن تجربة أوروبا الحديثة بهذا الخصوص. وأن الأولى في نظر وائل حلاق ليس الاجتهاد في التعاطي مع حجج هذه الأطروحات، بقدر ما هو محاولة التحرر من الأفكار المهيمنة والمسيطرة، التي تتخذ من اللغة أداة حاملة للمفاهيم التي تستبعدنا.
إن التمايز بين الأخلاقي والقانوني لم يكن له وجود لا في الشريعة عامة ولا في القرآن خاصة، بل إن مصطلح القانون نفسه بفعل تأثيرات أفكار فوكو، أصبح متلبسا بأبعاد إيديولوجية تحيل على السلطة وجهازها القمعي.
ويقترح وائل حلاق، منهجا مخالفا لفهم زمن وكيفية تشكل الدور التشريعي للقرآن الكريم، ينطلق من التخلي عن التحيزات الحداثية، لاسيما ما يرتبط بالتصنيف والتمييز المفاهيمي بين القانون والأخلاق كما استقر ذلك في تاريخ أوروبا الحديثة. غير أنه يقترح قبل ذلك، أن يتم فهم أفكار الحداثيين مثل كانط وأوستن وغيرهم، وكيف أثارت أفكارهم في طريقة تفكيرنا، وأن ذلك مدخل أساسي للوقوف على تحيزاتنا فيما يتعلق بالقرآن أو أي مجال من مجالات الشريعة.
وبعد أن يستعرض بشكل مفصل المفارقة بين الفلسفة القانونية والأخلاقية من خلال استعراض آراء ديكارت وكانط وهوبز وهيوم وبانتام نيتشه وغيرهم، ويتوقف على لحظة المفارقة في تاريخ الفلسفة الغربية بين "ما هو كائن" وما ينبغي أن يكون" أي بين (الواقع) وبين (القيمة)، كما كان الموروث المسيحي يشترط اعتبارها، ينتهي إلى أن استصحاب المفاهيم الغربية حول العلاقة بين القانون والأخلاق، كما تأسست في الوعي الأوروبي، يخلق تحيزات معرفية، تجعل الباحث يدرس القرآن أو أي مجال من مجالات الشريعة من وحي هذه الخلفيات، فيسقط من حيث لا يشعر في إسقاط مفاهيم بدلالاتها وإحالاتها المعرفية على قضايا كانت سابقة عن تشكل هذه المفاهيم نفسها، ما يفسر حالة الارتباك المتعمد في محاولة تتبع الدور التشريعي والقانوني للقرآن الكريم، إذ ينتهي الباحث إلى صعوبات جمة في البحث عن القانون بالمعنى الذي استقر في التجربة الحداثية الغربية، فينتهي به المطاف إلى إنكار دوره التشريعي في بداية تشكله، ومنذ ذلك التاريخ لفترات لاحقة بدأ يبرز فيها الدور القانوني، بالمعنى الذي استقر في الحداثة الغربية، فيصير الحكم على زمن تاريخي، بمفاهيم زمن تاريخي لاحق.
بعد هذا النقد الإيبيستيمي الكثيف، ينتقل وائل حلاق لدراسة الجانب القانوني والأخلاقي في القرآن الكريم باستقلال عن المفاهيم التي ورثها العقل عن تجربة الحداثة الأوروبية، لاسيما مفهوم الأخلاق والقانون، ويقترح بدلا عن ذلك، دراسة هذين الجانبين في ضوء المفاهيم التي وفرها العصر المدروس لهما، ويرى تبعا لذلك أن التشريعي والأخلاقي في ممارسات المسلمين وفي الخطاب الإسلامي في العصر ما قبل الحديث ـ بما في ذلك الخطاب القرآني ـ لا ينظر إليهما على أساس أنهما متمايزان.
ويذهب وائل حلاق أبعد من ذلك، فيرى أن مصطلح "الأخلاقي"، كما يفهم في عصر الحداثة، لم يوجد في الإسلام قبل الحداثة، وأنه تبعا لذلك، فإن التمايز بين الأخلاقي والقانوني لم يكن له وجود لا في الشريعة عامة ولا في القرآن خاصة، بل إن مصطلح القانون نفسه، بفعل تأثيرات أفكار فوكو أصبح متلبسا بأبعاد إيديولوجية تحيل على السلطة وجهازها القمعي.
ويخص وائل حلاق في هذه التجربة، تجربة رصد البعد التشريعي في القرآن الكريم بتحرر من المفاهيم التصنيفية التي طرأت ما بعد عصر التنوير الأوروبي، وينتهي في بحث مطول، أن الأسس التشريعية بدأت في القرآن المكي، وأن عملية التشريع هي عملية بنائية تكوينية، تكتمل بشكل متدرج، وأن الأسس والأصول البانية لهذه التشريعات، إنما ترسخت في القرآن المكي وأثمرت مكملاتها في الفترة المدنية.
في أولية القرآن في نظرية الشاطبي
تتبع وائل حلاق موقع القرآن في البناء الأصولي للإمام الشاطبي، ويدرس ثورته المنهجية بالقياس إلى التراث الأصولي الذي سبقه، سواء تعلق الأمر بتحديد مفهوم الأمة الأمية، والحد المعقول من العلم باللغة العربية المطلوب لفهمها القرآن الكريم، والشروط التي اشترطها في عملية التأويل، وأيضا ما يتعلق بمكانة السنة ومنزلتها في التشريع، ومفهوم التخصيص والتقييد الذي تقوم بالسنة، والمفهوم الجديد الذي أضفاه على النسخ، ودور السنة في تأسيس الأحكام باستقلال عن القرآن، ومجادلته في هذا الموضوع، واختياره المنهجي لحصر دور السنة في البيان للقرآن الكريم، ويتساءل عن خلفيات هذه الاختيارات المنهجية، ودلالاتها في الفلسفة الأصولية التي حاول الشاطبي التأسيس لها، ويستعين وائل حلاق بمقدمات الشاطبي في الموافقات، لاسيما ما يتعلق باستقراء الكليات من مجموع جزئيات الشريعة وفروعها، ويعتبر أن قصر الشاطبي الاستقراء على نصوص القرآن دون السنة يمثل ثورة أصولية جديدة وغير مسبوقة، كونها تتأسس على منطق المصلحة العامة، فيجمع مشروع الشاطبي حسب وائل حلاق، بين تأكيد الغاية العامة منه وهو المصلحة العامة، وبين تثبيت منهجية وأداة الوصول إليه، وهي الاستقراء المنطقي المنطلق من نصوص القرآن.
في إمكان إحياء الشريعة
في الفصل الرابع والأخير في الكتاب، يطرح وائل حلاق سؤال إمكان تطبيق الشريعة، ويغوص بعيدا في المفردات التقويمية والاصطلاحية التي أطلقها الفقهاء لتوصيف الآراء الفقهية، مثل الصحيح والأصح، والمذهب، وبعد أن يتبع تعليلات الفقهاء لهذه الاصطلاحات، وعلاقة ذلك بالتبحر في المذهب ومعرفة الأقوال والأدلة، والقول المختار ضمن المذهب وغير ذلك، يعرض لقضية أخرى كان لها حسم في تفسير بعض الاصطلاحات التقويمية الفقهية التي ظهرت متأخرة، مثل الراجح، والمفتى به، وما عليه العمل، والمشهور، وينتهي في تتبع هذه الاصطلاحات إلى أن الأمر كان له علاقة بالفتوى والقضاء وخبرة الفقيه بواقعه، وينتهي في خلاصاته، إلى أن تجربة الشريعة في المجال القانوني، كانت مؤطرة من جهة بالتكوين والخبرة التي يكتسبها الفقيه في جميع مستوياته التكوينية إلى أن يتقلد منصب الفتوى أو القضاء في إطار مستقل عن توجيه الدولة، ومؤطرة من جهة ثانية بخبرته في الواقع واحتكاكه بقضاياه.
ويستعرض وائل حلاق مسار انحسار البنيات التقليدية في المجتمع العربي بفعل الاستعمار والدولة الحديثة، وتراجع المسارات التكوينية للفقيه، فضلا عن تراجع الموقع الذي كان يسمح له باكتساب خبرة كبيرة بواقعه، ويخلص إلى أن تطبيق الشريعة أو البناء القانوني للشريعة في ظل هذه الشروط أصبح صعبا إن لم يكن مستحيلا. ويناقش في ذلك أطروحة المفكرين النهضويين والإسلاميين، وينتقد حججهم، وينتهي إلى أن تطبيق الشريعة يشترط الدولة، فهي وحدها من تستطيع أن تمهد الطريق لإحياء الشريعة، بالاستعانة بنخب من المثقفين المسلمين، وأن يناط الأمر بهيئة هرمية علمية منفصلة عن السلطة السياسية إلى حد بعيد.