شهد الحراكُ العربي منذ العام 2018 تطورات متصاعدة في أربع دول عربية، هي تحديداً: السودان، والجزائر، والعراق، ولبنان. وقد أطلقَ عليه البعضُ تسميةَ النسخة الثانية من "
الربيع العربي"، لتمييزه عن الحراك الأول، الذي انطلق أواخر 2010 وبداية 2011 من تونس، وامتدت ريحه إلى قرابة سبعة عشر بلدا، بعضها تخطى الحَدثَ بسلاسة، وبلدان، وهي قليلة، ماضية في طريق التغيير الديمقراطي، وصنف ثالث فُتحت أراضيه على اضطرابات داخلية واختراقات خارجية، وما زالت شعوبُه تعاني من ويلات الفرقة والانقسام والفتنة، ولا تبدو معالم الخلاص واضحةً أمامها حتى اليوم. غير أن بين النسخة الأولى من الحراك والثانية مشتركات كثيرة، وعناصر اختلاف عديدة.
تَشترك النسخة ُالأولى من الحراك العربي مع نظيرتها الثانية في أنهما معا كانتا ضد الاستبداد وحكم القوة، وقد رفعتا مطالب
الحرية والعدالة والكرامة، ولعبت شريحة الشباب، ذكوراً وإناثاً، أدواراً طليعية في تأجيجهما وإعطاء الحيوية والأمل في استمرارهما ونجاحهما. غير أن هناك بين النسختين، وهذا ما يبدو واضحاً، أكثر من تباين واختلاف، فمن المفترض أن الحراك في نسخته الثانية استفاد من ثغرات النسخة الأولى ونقائصها، وأصرّ مناضلوه وأنصاره على الاستمرار في الحراك حتى النصر، خلافا لما حصل في النسخة الأولى، حيث تمّ الاكتفاء بإسقاط رأس النظام، دون تفكيك بنيته، وهو ما نلاحظه في السودان، حيث تسعى التركيبة الحالية بين الجيش والمدنيين إلى فتح الطريق أمام نظام سياسي جديد، تُنقل السلطة نهائيا من الجيش إلى المؤسسات المدنية المنتخبة.
والأمر نفسه مازال يًصر عليه الجزائريون، حيث لم يكتفوا بإسقاط رأس النظام وإيقاف عُهدته الخامسة، ودفعه إلى الاستقالة في 2 نيسان/ أبريل 2019، بل يقترب حراكهم من الأسبوع الأربعين وإرادتهم تزداد صلابة وقوة على إسقاط كل رموز النظام والقطع مع منظومته، كي يتسنى بناء شرعية جديدة على أسس مخالفة جذريا لما عاشته الجزائر منذ استقلالها الوطني عام 1962.
وفي العراق ولبنان، تجاوز المتظاهرون الاعتبارات التي تحكمت في الثقافة السياسية لبلديهما منذ استقلال لبنان (1943)، أي
الطائفية، والعراق منذ سقوط بغداد (2003)، ووضع دستور 2005، حيث أبهر الحراك الطبقة السياسية، بالتفاف شباب كل المذاهب والطوائف حول شعارات أنصاره ومطالبهم، ولم تفلح نداءات الحكومة ولا توجيهات رموزها، بما فيها الدينية، في ثني شباب الحراك على إيقاف مسيراتهم الاحتجاجية.
لذلك، تبدو الموجة الثانية من الحراك العربي أكثر عمقاً من سابقتها، وتحمل عناصر التأثير في المنظومة السياسية بقدر أقوى من الأولى، ولأن الموجة الأولى من الحراك وقفت في نصف الطريق، أو ابتليت بردّة وتراجع إلى الخلف في العديد من الأقطار، فإن الحراك في دول الموجة الثانية قدّم حتى الآن مؤشرات واضحة عن قدرة أصحابه على الذهاب بعيدا في فتح النصر، وتدشين تاريخ جديد في إعادة بناء شرعية السلطة والدولة في الدول المعنية. بل إن الحراك، وعلى الرغم من كبواته في بعض الأقطار، كما هو حال مصر، لم يمنع أنصاره من تجديد احتجاجاتهم، بالشعارات ذاتها والمطالب نفسها، لأسباب موضوعية هي أن تطلعات المجتمعات العربية إلى توسيع مساحات الحرية، وإفسال روح العدالة في المجتمعات، وتوفير شروط العيش الكريم للمواطنين، لم تجد طريقها إلى التحقيق والإنجاز، بل إن بعض السلطويات يقوى عودها في بعض البلدان، وقد وفر لها المناخ الدولي في ولاية الرئيس الأمريكي الجديد (دونالد ترامب)، الغطاء السياسي للعودة من جديد، وتكشير أنيابها أكثر، وإطلاق العنان لتراجع بعض تباشير الحرية التي أطلقتها هبّات الموجة الأولى من الحراك، واضمحلت ممارساتها في مجالات التعبير، والإبداع، والإعلام، والتظاهر والاحتجاج.. فهل حقا ستنجح الموجة الثانية من الحراك العربي في ما فشلت فيه الأولى؟
يمكن التأكيد من زاوية المؤشرات المميزة للحراك العربي في نسخته الثانية، كما حللنا بعضها أعلاه، أن ثمة حظوظاً متعاظمة لتجنب مشهد الفشل هذه المرة. وحتى إذا لم يتحقق الفوز كاملا، وهذا وارد في السياسية، لا سيما في المجتمعات المركبة كما هو شأن الدول الأربع التي تعيش على إيقاع الاحتجاجات، فإن السيناريو لن يتكرر كما حصل في النسخة الأولى من الحراك. ففي السودان مثلا هناك ديناميات سياسية أفضت إلى تكوين صيغة مختلطة بين العسكر والمدنيين، تجهد من أجل نقل البلاد نحو حكم يتخلص من ثقل خمسة عقود من سلطة الجيش، وتحكمه في البلاد والعباد، وسيكون دون شك لميزان القوى وطبيعة السياق الإقليمي والدولي الدور الوازن في تحديد قسمات مآلات هذه الديناميات.
أما في الجزائر، فالوضع أكثر إحراجا ودقة، وربما أقوى خطورة، ولا يعرف على وجه اليقين كيف ستكون انتخابات 12 كانون الأول/ ديسمبر 2019؟ وكيف ستكون شرعيتها في ظل رفض شعبي عارم لإجرائها أصلا؟
أما العراق، فيبدو أن الحراك الجاري فيه قد انفلت من كل الحسابات التي دأبت عليها القوى السياسية بمختلف ألوانها، وقدم صورة عن شباب لم يعد مقتنعا بأسس الشرعية التي تم ترويجها منذ عقود، كما ضاق ذرعاً بموجات الفساد والمحاصصة التي خنقت البلاد منذ سقوط بغداد ووضع دستور 2005. ويقدم لبنان نموذجا متميزا لحراك تمرد على الطائفية واصطفافاتها، ونزع ثقته كلية عن الطبقة السياسية كاملة، التي أدخلت البلاد والعباد دائرة التفقير واغراق اقتصادها وظروف عيش مواطنيها في نفق لا معالم له.. هي الشهور والأيام القادمة كفيلة بتوضيح نتائج الموجة الثانية من الحراك العربي.