"لو أخوك أعمى كُل عشاه.. لو ربك بيحبه ما كان عماه".. "في زمنا الأخ لو طال ياكل أخوه هايكله".. "الجعان يحلم بسوق العيش".. "اتغدى بيه قبل ما يتعشى بيك".. تلك أمثال قد خلا زمنها، وزمانها في ما عرف بالشدة المستنصرية، يوم أن أكل
المصريون بعضهم بعضا.
إبان حكم الدولة الفاطمية، وتحديدا في فترة حكم المستنصر بالله الذي حكم من عام 1036 إلى عام 1094، مر على مصر شدة عظيمة، فقد جف النيل سبع سنين متتاليات، فتصحرت الأرض وهلك الحرث والنسل، وشاعت سرقة الخبز من المخابز، وأكل الناس القطط والكلاب، ونبش الناس القبور وأكلوا الميتة، واختطف الناس أحياء من الشوارع لذبحهم وأكلهم، حتى وصل الحال أن يسرق الجار ابن جاره ليأكله.
ويحكي المقريزي، المؤرخ المصري الشهير، في كتابه اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء: "ظهر الغلاء بمصر واشتد جوع الناس لقلة الأقوات في الأعمال وكثرة الفساد وأكل الناس الجيفة والميتة، ووقفوا في الطرقات فقتلوا من ظفروا به. وبيعت البيضة من بيض الدجاج بعشرة قراريط، وبلغت رواية الماء دينارا، وبيع دار ثمنها 900 دينار بتسعين دينارا ليشترى بها حمل دقيق. وعمّ مع الغلاء وباء شديد، وشمل الخوف من العسكرية وفساد العبيد، فانقطعت الطرقات براً وبحراً إلا بالخفارة الكبيرة، وبيع رغيف الخبز زنته رطل في زقاق القناديل كما تباع التحف، حتى بيعت الكلاب والقطط لتؤكل بخمسة دنانير"..
فلم يعرف
التاريخ المصري أشد من الشدة المستنصرية، ولم يشهد الإنسان المصري ما هو أبشع منها. ويُرجع العلماء ما حل بمصر إلى الظلم الذي استشرى في هذا الزمن وسكوت الناس عليه.
والسؤال الآن: هل ينقذ ترامب دكتاتوره المفضل من شدة جديدة هي أعظم من تلك التي عرفها المصريون في زمن المستنصر بالله؟ والوصف هنا تحمله أسباب، فالجفاف المخيم شبحه على مصر خلال الأشهر القادمة هو بلا شك أعظم من ذلك الذي شهدته المحروسة أيام المستنصر، لعظم أعداد الناس وانتشارهم على بقعة جغرافية أكبر من تلك التي كانوا يعيشون عليها، واستيطانهم الصحاري بعد أن عمرت بمدن بناها العسكر ليُخرجوا الناس من القاهرة التي رأوها حكرا عليهم. وبدلا من أن يدفعوا بعجلة التنمية إلى المحافظات الطاردة، بنوا مدنا جديدة في الصحاري. وفي المقابل، تم تبوير الأراضي الزراعية التي كانت تطعم المصريين ليبنوا الأبراج، وبدلا من أن يسقي النيل الجاري الدلتا، مددوا الأنابيب ليزرعوا الصحراء، في تبرير تجاري؛ متجاهلين الأمن الغذائي للوطن، وذلك لأنهم تجار لا حكام.
الإحصائيات الرسمية الواردة على لسان وزير الري في نظام
السيسي، محمود أبو زيد، تقول إن مصر ستخسر بالتأكيد من اكتمال السد الإثيوبي ما يقارب 15 مليار متر مكعب من حصتها، بالإضافة إلى كمية التبخر والتسرب في مياه الأمطار التي تتدفق على النيل الأزرق.. هدر يزيد على 3.5 مليار دولار في بناء محطة تحلية للوفاء بحاجة البلاد من المياه؛ كانت مصر بحاجة إليها في مشروعات تنموية وإيجاد فرص عمل للشباب العاطل، مما يدفع عجلة التنمية، كما سيوقف بالنتيجة عمليات استصلاح الأراضي، بل وسيخرج ما يقارب مليون ونصف مليون فدان من الأراضي الممتازة والمنتجة من الخدمة، وهو ما يعني بالنتيجة زيادة واردات مصر من الغذاء الذي تمثل الآن ما نسبته 60 في المئة من حاجة الشعب المصري، بما يعني مزيدا من هدر الموارد دون التنمية.
وإن كان السد العالي لا يقدم لمصر سوى 12 في المئة من الكهرباء المنتجة، إلا أن تلك النسبة ستخرج بالكلية من العملية الإنتاجية من قطاع الطاقة، مما سيؤثر بالنتيجة على حصة المواطن من الكهرباء، ما يعني انقطاعا متكررا وتكلفة أكبر على المواطن في حال إيجاد حلول بديلة، كما هو الحال في العراق ولبنان بمحولات أهلية عالية الكلفة. كل هذه الأضرار تؤثر بشكل كلي على الحالة الاقتصادية في مصر، سواء في الغذاء أو الطاقة، أو متوسط دخل الفرد بخروج آلاف الكيانات الاقتصادية، وبالنتيجة ملايين العاطلين عن العمل، وتراجع الإنتاج، ما يسبب ارتفاعا بالأسعار.
لكن كل هذه
الكوارث تهون أمام السبب الحقيقي لها، وهو إنهاك وتركيع هذا الشعب العظيم أمام الكيان اللقيط على حدودنا الشرقية. فشذاذ الآفاق قرروا تعطيش مصر، فوضعوا الخطة ومررها العملاء الذين يحكمون مصر الآن، بعدما اختطفوها وسلموها لأعدائها لقمة سائغة وجثة هامدة ليستعبدها أعداؤها.
لقد كانت الشدة المستنصرية نتاج ظلم المستنصر بالله، أما الشدة المقبلة على مصر فهي أبعد من ظلم النظام، فالشدة المنتظرة نتاج عمالة النظام وخيانته للشعب والعلم، ولن تزول الشدة إلا بزوال النظام.. ثوروا تصحوا.