في ستينيات القرن الماضي نشأ الطفل ستيفن هيلنبرغ في مدينة أناهايم الصغيرة القريبة من المحيط الأطلسي. هناك وقع في غرام تلك الزرقة الهائلة، ونشأت علاقة خاصة بينه وبين المخلوقات الكثيرة الهائلة التي تتخذ المحيط مأوى لها.
دون أن يدري الطفل هيلنبرغ، رسم المحيط قدره.
في شبابه، درس علم الأحياء البحرية، وتخرج من قسم تخطيط الموارد، مع التركيز على الموارد البحرية سنة 1984 من جامعة هومبولت. ثم التحق بالعمل مدرساً للبيولوجيا البحرية في معهد أورانج كاونتي البحري (يُعرف حاليا بمعهد المحيط) في ولاية كاليفورنيا. وبسبب حبه للرسم، ألَّف كتابا مصوّرا، رسم فيه المخلوقات البحرية شارحا طبيعتها لزوار المعهد من طلاب المدارس. كان اسم الكتاب "منطقة المد والجزر".
حاول هيلنبرغ أن يمزج في كتابه بين الإبداع والرسم والعلوم البحرية، لكنّه لم يجد صدى لدى الناشرين. الفائدة الحقيقية التي قدّمها الكتاب لهيلنبرغ هي وضع الأساس لمستقبله الفني؛ فقد شكّل أساسا لعالمه الفني - البحري، الذي سيسحر العالم عما قريب، عبر المسلسل الكرتوني الشهير سبونج بوب.
ومع أن الكتاب لم يجد ناشرا يتحمس له، فقد شعر هيلنبرغ، عالم الأحياء البحرية، أن ثمة شيئا جديدا يصحو داخله. مستسلما لوهج الفن الخاطف، ترك عمله الأكاديمي في معهد أورانج كاونتي، والتحق بمعهد كاليفورنيا للفنون ليتقن فن الرسم الذي كان موهوبا فيه منذ الطفولة. وحصل على درجة الماجستير في الرسوم المتحركة سنة 1992.
كان ذلك قرارا جريئا. المعهد موقع عمل مرموق، يضمن له دخلا كبيرا ومنتظما، خلافا للعمل في مجال الرسوم المتحركة الذي كان آخذا في التطور وقتها، لكنه لم يقدم لهيلنبرغ وعدا بأي شيء.
بعد فيلميْ كرتون قصيرين أعدّهما خلال دراسته، نال هيلنبرغ فرصة العمل مع قناة نيكلوديون، في مسلسل حياة روكو الحديثة، من 1993 حتى توقفه عام 1996. عمل فيه مخرجا ومنتجا وكاتبا، والتقى بعدد من مؤدّي الصوت المتميزين، مثل توم كيني، الذي أدى دور سبونج بوب فيما بعد.
وخلال عمله في مسلسل حياة روكو الحديثة التقى بالكاتب مارتن أولسون الذي أعجبه كتاب "منطقة المد والجزر"، فاقترح على هيلنبرغ أن يكتب مسلسلا أبطاله شخصيات الكتاب، فتسرّب بعضها إلى مخيلة هيلنبرغ حيث تطوّرت لتصبح أبطال المسلسل. كان اسم الشخصية الرئيسية بوب ذا سبونج.
في سنة 1996، وبعد انتهاء العمل في "حياة روكو الحديثة"، بدأ هيلنبرغ تطوير عالم مسلسله "سبونج بوب سكوير بانتس". ثمة مدينة خيالية في قاع المحيط الهادي، تقع فيها مغامرات بطل المسلسل وأصدقائه. وحين عرض فكرته على مديري قناة نيكلوديون مستعملا حوضا كبيرا يضم مجسمات لشخصيات المسلسل، طلبوا منه إعادة تقديم العرض مرحّبين بالفكرة؛ فلم يكونوا قد شاهدوا نظيرا لها من قبل.
كان هيلنبرغ قد رسم سبونج بوب على هيئة إسفنجة بحرية في كتابه "منطقة المد والجزر"، لكن حين بدأ إعداد المسلسل الكرتوني عدّله ليصبح في هيئته الأحدث؛ إسفنجة مطبخ رفيعة الساقين والذراعين.
من مفارقات هذه المرحلة أنه بعد بدء العمل على الفكرة اكتشفت قناة نيكلوديون أن اسم العمل، وهو "سبونج بوب أهوي" مملوك لمنتج تجاري، عبارة عن ممسحة أرضية، فأصبح تغيير الاسم حتميا. اختير اسم "سبونج بوب"، وقيل إن "سكوير بانتس" أضيف للاسم بعد مزحة لطيفة من مؤدي الصوت توم كيني.
في سنة 1999 انطلق المسلسل على قناة نيكلوديون، محققا شهرة عالمية، آسرا الكبار والصغار معاعبر ترجمات له وصلت إلى 60 لغة مختلفة. كما أطلقت الشركة المالكة حزمة من المنتجات المرتبطة به، حتى تجاوزت الأرباح الإجمالية 13 مليار دولار.
عمل هيلنبرغ منتجا تنفيذيا ومديرا للمسلسل منذ بداية عرضه الأول سنة 1999 حتى 2004، ثم توقف للعمل على الفيلم الجديد الذي استثمر نجاح المسلسل، ورأى بعده أن يتوقف كل شيء، لكن القناة أرادت المزيد من الحلقات. استقال هيلنبرغ من منصب المنتج التنفيذي ومدير المسلسل، بينما استمر في مراجعة الحلقات وتقديم مقترحات بشأنها.
صدر فيلم "سبونج بوب سكوير بانتس وتاج الملك" سنة 2004، وجنى أرباحا بلغت 140 مليون دولار، ثم صدر فيلم "سبونج بوب سكوير بانتس: الإسفنج خارج المياه" سنة 2015 محققا 323 مليون دولار؛ وهذا ما يفسر إصرار نيكلوديون على استثمار نجاح المسلسل في إنتاج أفلام وأجزاء جديدة من المسلسل، الذي لا يزال محتفظا بشعبيته لدى الكبار والصغار.
وكما كان هيلنبرغ استثنائيا في حياته، كان استثنائيا أيضا في موته الغريب. ففي مارس أعلن عن إصابته بمرض التصلب الجانبي الضموري، وهو مرض نادر، قاتل، يصيب الجهاز العصبي ويفتك بخلايا الأعصاب مما يؤدي إلى أنواع مختلفة من الإعاقات تقتل المريض حين تتلف الخلايا العصبية وتتضرر العضلات اللازمة للأكل والتنفس والحركة. يستطيع الأطباء التحكم النسبي في سرعة انتشاره المدمر، بحيث تمتد حياة المريض لأطول فترة ممكنة، وبالحد الأدنى من المعاناة والألم.
لا أحد يمكنه الجزم بأسباب المرض النادر، لكن يمكننا الحزن من أن يختار المرضُ فنانا متألقا مثل هيلنبرغ، حتى يوقف مسيرته الباهرة في عامه السابع والخمسين، في مثل هذا الشهر من العام الماضي (26 نوفمبر 2018)، ليظل الملايين حول العالم يذكرونه كلما رأوا إسفنجة المطبخ التي تذكرهم بالسيد سبونج بوب سكوير بانتس.